الرئيسية » » الانحراف الاجتماعى

الانحراف الاجتماعى

مذكرات فى الانحراف الاجتماعى 

نظرة عامة غلى الانحراف

ماهو الانحراف ؟

ماهو الشيء الذى يجعل الفعل منحرفاً ؟ لماذا تعتبر عملية القتل وتجارة المخدرات وسرقة البنك والمعاكسات الهاتفية أمثلة على السلوك المنحرف ؟ ماهو الشيء المشترك بين هذه الأفعال ؟ باستطاعتنا نحن التفكير وذكر امثلة متعددة ومختلفة من السلوك المنحرف ولكن توجد صعوبة إلى حد ما في تحديد صفة او صفات تؤهل أي فعل بأن يكون فعلا أو سلوكا منحرفاً.وماهي الصفات العامة والمشتركة بين السلوكيات المنحرفة ؟ هل هي عدم قبول أو رفض اجتماعي ؟ هل هي افعال تخرق أصول الدين والمعايير الأخلاقية ؟ وماهي المعايير او التعريفات التي يمكننا استخدامها لإطلاق صفة الإنحراف أو السوية على سلوك ما ؟
من الواضح انه يمكن الإجابة على الأسئلة السابقة بإجابات مختلفة ومن ثم يمكن إضفاء أو إلصاق صفة الانحراف على سلوك ما بطرق متعددة . هناك ثلاثة اتجاهات لتعريف السلوك المنحرف :
1. مذهب الاطلاق (المطلقية )   2. الاتجاه المعيارى    3. اتجاه ردود الفعل 
أولاً: مذهب الإطلاق (المطلقية ):
يرى هذا المذهب أن صفة الانحراف تكمن في طبيعة السلوك أو الفعل المنحرف نفسه . فالانحراف عضو فاعل ومتحرك في بعض الأفعال الاجتماعية ، وشيطان الإنحراف متأصل في طبيعة السلوك الأساسية وفي صلبه . فإذا وجد شيء أو فعل منحرف فهو خطأ الآن وإلى الأبد وفي كل مكان . ويعتبر الإنحراف سلوكا شاذا وخاطئاً بغض النظر عن كيفية التحكم عليه من البعض أو الكل ، فهو يعتبر اعتداء على نظام وترتيب العالم كماهو الحال في المثال التالى عندما نبدأ بإضافة أو جمع الأعداد التالية 2+2= 5 ، فالحصول على الناتج (5) يدعونا إلى حتمية القول بأنه خطأ عالمي الآن وإلى الآبد فالإنحراف هو شيء مخالف للقوانين الإلهية الخالدة والمطلقة وخير مثال على ذلك هو الإجهاض ، حيث يعتبر سلوكاً إجرامياً ومنحرفاً في نفس الوقت ، نتيجة لقتل روح إنسان ونتيجة لخرق القوانين الإلهية الأزلية المطلقة .
بالنسبة للمطلقية :
فإنه لا يمكن تحديد الانحراف أو السلوك المنحرف من خلال المعايير أو العادات أو القوانين الاجتماعية ، فالصواب والخطأ لهما الاستقلالية والوجود قبل أن يبتدع الإنسان المعايير والعادات والانحراف كوسائل زائفة ومحددة للسلوك المنحرف . وما يعتبر سلوك منحرف او سلوك سوي من وجهة نظر هذا الاتجاه إنما هي حقيقة موضوعية ثابتة وليست حكم اجتماعي أو تقدير اجتماعى اعتباطى.
عكس مذهب الاطلاق ما يسمى بالنسبية الثقافية التي ظهرت بوادرها في القرن التاسع عشر. ففي بداية هذا القرن اكتشف علماء الاجتماع بعض الممارسات والأفعال الاجتماعية
 التى تختلف من مجتمع لآخر ، حسب درجة تقديرها واعتبارها كسلوك منحرف أو سوي. فما كان يعتبر سلوكا منحرفاً في القرن الثالث عشر ، اعتبر عكس ذلك ، أي سلوكاً سويا فى القرن التاسع عشر . إضافة على ذلك اختلاف تقدير السلوك المنحرف والسوي حسب الحقبة التاريخية التي وجد فيها .
لقد بدأ علماء الاجتماع في القرن العشرين حتى اليوم بالابتعاد عن مذهب الاطلاق أو المطلقية وإجهاضه نتيجة لعدم توافقه مع ماهو معمول به  بالنسبة للنسبية الثقافية وتباين المجتمعات الانسانية واختلاف ثقافاتها وتقديرها لما هو سوي  أو سلوك منحرف .
ثانياً : المذهب المعياري:
لا يرى المذهب المعيارى الانحرافي في السلوك أو الفعل بحد ذاته وإنما يعتمد على المعايير الاجتماعية فى اكتشاف السلوك المنحرف ، فالسلوك المنحرف هو السلوك الذى يخرق ويعتدى على المعايير الاجتماعية في المجتمع أيا كان هذا المجتمع . إذن فالمكيال أو المقياس هنا هي المعايير الاجتماعية التى باستطاعتنا تحديد السلوك الذي يواجهها أو يسير عكس اتجاهها. وعلماء الاجتماع المتبنين لهذا المذهب يرون ببساطة أن الانحراف هو مخالفة او اعتداء رسمى وفعلي على المعايير الاجتماعية .
ويحتوي المذهب المعيارى على مفهوم النسبية في تقدير السلوك المنحرف فيمكن أن يكون هناك فعل او سلوك مقبول ومتوافق مع المعايير الاجتماعية في مجتمع ما ومرفوض ويتعارض مع المعايير الاجتماعية في مجتمع آخر .ما يجعل أي فعل منحرفاً إنما هو في الواقع مخالفته لعادات ومعايير وقوانين المجتمع الذى يحدث فيه ، وخير مثال على ذلك هو الرأسمالية والشيوعية وعملية ممارسة التجارة الخاصة والحرة .ففي المجتمع الرأسمالي عملية التجارة الحرة والربح وامتلاك رأس المال أمر وسلوك مرغوب ومقبول اجتماعياً بل تدعمه المعايير الاجتماعية . أما في المجتمع الشيوعي فهو على العكس من ذلك تماما حيث ان التجارة الحرة وملكية رأس المال والربح امور غير مرغوبة وغير مقبولة اجتماعياً بل تعتبر سلوكا منحرفاً في الحال .
ويمكن ضرب مثال آخر من واقع المجتمع الإسلامي حيث الغزل قبل الزواج أمر مرفوض اجتماعياً لمخالفته للمعايير الدينية والاجتماعية ولكنه سلوك مقبول ومرغوب في الدول الاوروبية والولايات المتحدة الامريكية . من هنا تتضح لنا أن المذهب المعياري يحدد السلوك المنحرف من خلال مدى تفارق وتعارض الفعل مع املعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع .
على الرغم من أن المذهب المعياري هو احد الاتجاهات الشائعة بين علماء الاجتماع المحدثين في حقل الانحراف الاجتماعي إلا أنه يواجه مشاكل وانتقادات متعددة منها :
1. أن الاتجاه المعياري يفترض أن المعايير تسبب وتحدث السلوك بشكل تجريدي وغير محدد. في الواقع معظم أفراد المجتمع يشتركون ويتفاعلون من خلال السلوك التقليدي والمقبول ويحاولون الابتعاد عن السلوك المنحرف وتجنبه ليس نتيجة لطاعتهم العمياء لمعايير المجتمع وإنما نتيجة توقعهم لردود الفعل السلبية من الآخرين إذا تصرفوا غير ذلك . فهذا الاتجاه يقتضى ضمنا نوعا من الفعل والتأثير والتوجيه الكيفي والآلي للمعايير دون أي اعتبار لكيفية تحول هذه المعايير إلى أفعال أو سلوكيات فعلية . 
2. هناك استثناءات في المجتمع حيث أنه ليس من الضروري على كل افراد المجتمع أن يتفقوا على ان السلوك المعياري والمتوافق مع معايير المجتمع سلوك سوي او أن السلوك المخالف والخارق لمعايير المجتمع سلوكاً منحرفاً . فهذا الاتجاه يفترض ما يسمى بالإجماع المعياري ، وهذا غير صحيح وغير متواجد في كل المجتمعات الإنسانية . فنحن نختلف أحياناً حول تعريف أو فعل معين بأنهم نحرف او سوي.
3. يهمل هذا الاتجاه الظروف الإضطرارية أو المخففة التى من الممكن أن تؤدي إلى التأثير على حكم الملاحظ واعتباره الفعل منحرفاً أم لا . فمثلاً قيادة السيارة بسرعة جنونية أو بسرعة تفوق الحد ألأقصى المسموح به يؤدي إلى تعرض السائق إلى مخالفة قانونية ومن ثم يمكن اعتبار سلوكه بأنه سلوك غير سوي أو منحرف . ولكن ماذا يحدث لو أن هذا السائق كلن يحمل مريضاًً أو امرأة على وشك الوضع أو الولادة أو جريحاً. بالطبع سوف نطلق عليه صفة البطل أو الشجاع او الايثارى ..الخ . فالظروف المخففة لهذا الحدث تدعونا إلى تغيير نظرتنا لتفسير السلوك وتصنيفه كسلوك منحرف لذلك ينتقد هذا الاتجاه بأنه لا يعطى الأهمية للظروف المخففة المحيطة بالفعل الاجتماعى .
4. يرفض الاتجاه المعياري التفرقة بين الأفعال التى تخرق المعايير وتثير اهتمام الآخرين وتستدعى العقوبة والأفعال التى لا يعيرها افراد  المجتمع أي اهتمام ولا تستدعى العقوبة الفورية . وخير مثال على ذلك هو الموظف البيروقراطي الذى يلتزم ويطبق البيروقراطية كهدف بحد ذاته ، دون الإهتمام أو الاعتبار بمصالح ألاخرين . فهو يطبق اللوائح البيروقراطية كهدف بحد ذاتها وليس كوسيلة للوصول إلى الهدف . هنا هذا الموظف قد خرق المعايير لأنه من الواجب عليه استخدام البيروقراطية كوسيلة لتحقيق أهداف ومصالح المواطنين دون تأخير . ومثال آخر مواز للأول حول خرق المعايير هو وجود لص قام بسرقة المال من أحد فروع البنوك بعد أخذ الموظف رهينة . بالنسبة للاتجاه المعياري الاثنان الموظف واللص قد خرقا المعايير وعليه فالاثنان تصرفا أو سلكا سلوكا منحرفاً. ولكن تصرف الموظف لايثير ضجة عارمة ولا يقرع جرس الإنذار وهو بالتالى لا يستدعي عقوبة فورية وصارمة ضد هذا الموظف . إنما تصرف أو سلوك اللص هو الذي أنتج وأثار اهتمام أفراد المجتمع وأدى إلى ردود فعل عارمة ونتيجة لذلك فإنه من الصعب أن نحكم على سلوك الموظف وسلوك اللص بأنهما سلوكان منحرفان نتيجة لمخالفتهما أو معارضتهما أو خرقهما للمعايير الاجتماعية .
ثالثا: مذهب أو اتجاه ردود الفعل الاجتماعية:
يؤمن علماء ومنظري الإتجاه المعياري بأن الانحراف يحدث في الخفاء والسر ن والفعل المخالف للمعايير الاجتماعية سواء كان سرا أو معلوما لدى الآخرين فإنه في كلتا الحالتين ، يمكن اعتباره سلوكا منحرفا . أما بالنسبة لمنظرى اتجاه ردود الفعل الاجتماعية فهم يعترضون على ذلك ، نتيجة لتبنيهم موقفا أكثر تطرقاً في النسبية الثقافية أو النسبية المعيارية . حيث يرون أن صفات الانحراف فى اى فعل يمكن أن تؤخذ من خلال كيفية الحكم على الفعل نفسه ن وحتى يمكن تأهيل أي فعل ووصفه بأنه فعل منحرف لابد من توفر الصفات التالية :
1. أن يكون الفعل قد لوحظ من قبل الآخرين أو سمعوا عنه .
2. أن ينتج عقوبة رادعة أو إدانة لمرتكب الفعل.
ونتيجة للشروط أو الصفات السابقة ، توجد هناك العديد من الفعال غير السوية وغير المقبولة التي يقوم بها أفراد المجتمع ولكنها تخفى على الاخرين ولا تظهر على سطح المجتمع ، حتى لو ظهرت هذه الأفعال أو السلوكيات للعيان وعرف الناس بأمرها فإنه ليس من الضروري أن تنتج عنها إدانة للفعل أو عقوبة لمرتكب هذه الأفعال . فوفقا لما يراه هذا الاتجاه ، لا يمكن اعتبار هذه السلوكيات أو الأفعال منحرفة . بمعني آخر علماء الاجتماع المتبنيين لهذا المذهب يرفضون الفكرة القائلة بأن الناس تحكم على أنواع السلوكيات الإنسانية من خلال النظرة التجريدية، ولكنهم يؤيدون الفكرة القائمة على أن الناس تحكم على الآخرين من خلال مواقف محددة.
ما يجعل الفعل منحرفا هو ردة فعل أفراد المجتمع الفعليين (وليس القانون) تجاه السلوك والفاعل، والقياس الفعلي لمدى سوية أو انحراف السلوك لدى أصحاب هذا الاتجاه يعتمد على عدم الموافقة أو الرفض الاجتماعي تجاه أفعال وفاعلين محددين. فهم يرون أنه لا يمكن اعتبار أي فعل منحرفا إلا بعد الإدانة الاجتماعية، وبالتالي فإن صفة الانحراف تكمن في شجب الفعل نفسه. وهذا يعني على سبيل المثال إذا قام فرد في المجتمع بقتل شخص آخر مع سبق الإصرار والترصد وكانت جريمته مثالية بحيث استطاع أن يفلت من يد العدالة فإن فعله لا يعتبر انحرافا ولا يعتبر جريمة نتيجة لعدم تعرض الفاعل للعقوبة الجزائية. لذلك يرى هذا الاتجاه أنه لابد من أن تقع العقوبة الفعلية على الفاعل حتى يمكن اعتبار سلوكه منحرفا.
الانحراف هو السلوك الذي ينتج ردود فعل سلبية من قبل أفراد المجتمع ولا يمكن أن يكون هناك انحرافا بعيدا عن ردود الفعل أو الاستجابات السلبية للمجتمع. أن جوهر الوجود للسلوك المنحرف يكمن في ردود الفعل السلبية للمجتمع تجاه الفعل والفاعل، وبالتالي فإنه إذا لم تتواجد لدينا أية ردود فعل سلبية يمكن القول بأنه لا يوجد لدينا انحراف.
إن معظم علماء الاجتماع اليوم يتبنون الاتجاه المعياري في تفسير السلوك المنحرف ويبتعدون عن اتجاه ردود الفعل الاجتماعية. ومع ذلك فإنه توجد هناك مجموعة قليلة من علماء الاجتماع في يومنا هذا يأخذون بمذهب ردود الفعل الاجتماعية في تفسير السلوك المنحرف.
المشكلات التي يواجهها اتجاه ردود الفعل الاجتماعية:
1. يتجاهل هذا الاتجاه الأفعال التي ترتكب في الخفاء والتي من الممكن أن تصبح أفعالا أو سلوكيات منحرفة إذا تعرف عليها أفراد المجتمع. ففي الغالب معظم الأفعال المنحرفة ترتكب في السر ولكنه بالنسبة لمنظري هذا الاتجاه فإنه لا يوجد شيء اسمه انحراف سري أو خفي، وهنا تكمن المعضلة أو المشكلة وهي التناقض في المصطلحات، فإذا أرد الباحث الاجتماعي تبني هذا المذهب في دراساته فإنه يجب عليه أن يبتعد عن دراسة كل الأفعال والسلوكيات التي ترتكب في السر أو الأفعال التي لا تدان ولا يرد عليها بعقوبة جزائية فعلية. فمثلا من وجهة نظر هذا الاتجاه يمكن اعتبار حياة اللص المحترف الذي يقوم بكل الأفعال غير القانونية والمنحرفة في الخفاء ودون علم المجتمع أو رجال الشرطة، هي نفس حياة المواطن العادي الذي يقوم بطاعة واحترام القانون. إلا أن معظم الملاحظين والعلماء يعتبرون هذه النظرة خاطئة وغير منتجة بالنسبة لدراسة السلوك المنحرف.
2. يهمل هذا الاتجاه الأفعال والسلوكيات التي ترتكب في الخفاء والسر والتي من الممكن أن تصبح سلوكا منحرفا حتى إذا كان هناك علما مسبقا لدى الفاعل بأن فعله سوف يدان ويشجب من قبل المجتمع. حيث يتجاهل هذا الاتجاه نظرة وتعريف الأفراد المشتركين بالفعل نفسه. أي نظرة وتعريف المجرم لفعله الإجرامي. ففي حقيقة الأمر، عندما يقوم فرد ما أو مجموعة من الأفراد بسلوك مخالف قواعد وقوانين ومعايير المجتمع فإنهم على علم مسبق بأن هذا التصرف أو الفعل سوف يدان من قبل الآخرين. وكذلك سوف يعتقد البعض بأنهم لا يستحقون العقوبة ويعتقد البعض الآخر عكس ذلك، ولكنهم جميعا مدركون تماما بما سوف سيقوم به الآخرون عند اكتشافهم لأفعالهم.
3. ينكر هذا الاتجاه احتمالية وجود التنبؤات بردود الفعل الاجتماعية تجاه السلوك المنحرف، حيث يفترض علماؤه أنه ليس باستطاعة علماء الاجتماع التنبؤ بتحديد الأفعال التي من الممكن أن تواجه ردة فعل سلبية من قبل أفراد المجتمع. حيث يدعون بأنه لا يستطيع أفراد المجتمع التنبؤ بأن سرقة محل ما سوف يشجب أو يهمل أو يمتدح من قبل الآخرين، فلذلك لابد من الانتظار حتى نرى ما يقوم به الآخرون وما هي ردود فعلهم تجاه هذا السلوك. وبالتالي لا يمكن اعتبار ردود الفعل خاصية ذاتية للأفراد وإنما هي قاسم ممشترك يتفق أفراد المجتمع على مدى وصف سلوك ما بالانحراف أم لا. فمثلا إذا رأينا رجلا مخمورا في وسط الزحام يقوم بضرب زوجته فإنه بالطبع سوف يكون هناك اتفاق على أن سلوكه منحرفا، وعلى نفس القياس يمكن اعتبار الرجل الذي يحترم زوجته وأولاده في مكان عام بأن سلوكه طبيعي وسوي، لذلك من الممكن التعميم حول وجود علاة ترابطية بين بعض أنواع السلوك وبين بعض أنواع ردود الفعل، أما إذا أخذنا بمذهب ردود الفعل الاجتماعية فإنه يجب علينا أن نعترف أنه ليس من حقنا أن نتنبأ ما إذا كان قتل الطفل في سريره سلوكا منحرفا أو سويا، أو أن تناول الطعام في الشارع سلوكا منحرفا أو سويا، ولكن بالإمكان هنا إلصاق أحد الاتجاهين بهذه السلوكيات إما العقوبة والشجب أو التسامح.
4. ينكر هذا الاتجاه حقيقة وجود الضحية، حيث يتجاهل الحقيقة التي مؤداها أن السلوك المنحرف غير المدان يترك وراءه ضحية حقيقية. فعلى سبيل المثال جزء كبير من جرائم الاغتصاب تمر دون معرفة المجرم وجزء قليل جدا يخبر عنه لدى الشرطة، ومن الجزء القليل المعلوم لدى رجال الشرطة فإن نسبة قليلة جدا من المغتصبين يلقى القبض عليهم وتتم إدانتهم، ولكن في الحقيقة والواقع الاجتماعي أنه توجد هناك امرأة اغتصبت وهناك مجرم حر طليق لم تنله يد العدالة ومر فعله دون عقاب، وهل هذا يعني أن المرأة لم تعتصب نتيجة لعدم وجود ردة فعل اجتماعية؟ "هذه حقيقة وواع هذا الاتجاه".
هل يمكن إيجاد حل معتدل لهذه المعضلة؟
إذا نظرنا إلى الاتجاهات الثلاثة نجد أنفسنا في معضلة حقيقية، فمن ناحية لا نستطيع أن نعلم مؤكدا ما إذا كان هناك فعلا ما سوف يوجه له شجب وعقوبة من قبل الملاحظين والمشاهدين وذلك بسبب تعدد وتنوع التوقعات والاحتمالات (كيستسوس 1962) ومن ناحية أخرى كما يقول جبس (1972) فنحن لدينا فكرة مسبقة عن أي الأفعال التي تنتج عقابا على الفاعل، وبالتالي فإن عملية العقاب ليست عملية عشوائية أو اعتباطية، ونتيجة لذلك يتحتم علينا خلط أو مزج الاتجاه المعياري مع اتجاه ردود الفعل الاجتماعية والخروج باتجاه معتدل للمعضلة. ولحل هذه المعضلة يرى إريك جود (1978) أنه من الواجب علنا أن نتبنى نظرة اتجاه ردود الفعل الاجتماعية المعتدلة أو المخففة بحيث نتمكن من تجنب نقاط الضعف فيه ونحتكر نقاط القوى في الاتجاهات الأخرى.
إن النظرة التوافقية أو عملية التوفيق بين الاتجاه المعياري وبين اتجاه ردود الفعل الاجتماعية لابد وأن تحتوي على الخصائص التالية:
أولا: المعايير ذاتها لا تحدث أو تمنع حدوث السلوك حيث أنها ليست إلا مجموعة من الاستنتاجات بنيت أو صممت من قبل علماء الاجتماع نتيجة جمعهم لمتوسط ردود الفعل تجاه السلوكيات التي تمت ملاحظتها في مواقف وبيئات مختلفة بوجود وحضور العديد المتنوع من حيث الكم والكيف من المشاهدين. وهذا يعني أنه بإمكان عالم الاجتماع عند ملاحظته لفعل محدد أن يسبغ صفة الانحراف على هذا الفعل نتيجة لمعاقبة هذا الفعل وشجبه في معظم المجتمعات تقريبا وبالتالي يمكن أن يكون مثالا للانحراف. إن نظرة علماء الاتجاه المعياري تبدأ من خلال النظرة الأولى والأساسية للمعايير، ثم بعد ذلك الاهتمام بردود الفعل الاجتماعية. أما بالنسبة لعلماء اتجاه ردود الفعل الاجتماعية المعتدلون فإنهم يرون العكس تماما حيث يقومون ببناء الصورة أو التصور لماهية وشكل ووجود المعايير نتيجة لردود الفعل الاجتماعية.
ثانيا: لا توجد هناك قاعدة أو قانون مطلق، وحتى المدرسة الحتمية أو العلماء المتبنين لهذا الاتجاه لا يمكنهم أن يتوقعوا أن يحدث هناك تنبؤا كاملا ضروريا للتعرف على معايير الجماعة. ونتيجة لذلك يجب على علماء اتجاه ردود الفعل الاجتماعية المعتدلين أن يتبنوا اتجاها احتماليا لتفسير الانحراف. حيث يعتبر السلوك منحرفا إذا وقع ضمن طبقة أو مجموعة من السلوكيات التي تحتمل العقوبات السلبية نتيجة لاكتشافها أو تحديدها. وإذا كان عالم الاجتماع ذو نظرة ثاقبة فإنه يستطيع أن يدرك ويتبين شهود العيان والملاحكين أو يقيم السلوك أو الفعل ويضعه في إطار أو طبقة السلوكيات التي أنتجت وأدت إلى ردود فعل اجتماعية سلبية في الماضي، ولكن لا يمكن أن يكون هذا التنبؤ بأي حال من الأحوال معصوما من الخطأ.
ثالثا: نتيجة لعدم اكتشاف وتحديد  أغلب السلوكيات التي يترتب على حدوثها عقوبات وشجب فإنه يجب على الملاحظ أن يضع الأسئلة التالية:
س1: ما هو تصور الفاعل لكيفية شعور الآخرين نحو سلوكه؟
س2: كيف يمكن أن يؤثر هذا التصور على الأفعال المستقبلية الأخرى للفاعل؟
س3: ما هو التصور الذاتي للفاعل؟
وبالتالي فمن الضروري عدم إهمال تصور الفاعل لردود فعل الآخرين حيث لا يمكن سلخ التصور الذاتي للفاعل من معادلة الانحراف.
رابعا: إن ردود فعل المجتمع المنبثقة من المشاهدين للفعل ليست من الضروري أن تظهر وتبرز السلوك المشبوه من عدمه، فعلماء الطب النفسي لا يمكنهم أن يخلقوا الاضطرابات العقلية كنتيجة منطقية لحكمهم على من هو مريض عقليا. فلابد من البحث ووضع الشروط الأساسية للمختل عقليا، كذلك الحال بالنسبة لرجال الشرطة حيث لا يمكنهم أن يستحضروا في أذهانهم الأفعال الإجرامية التي لا تتواجد في الواقع الفعلي وقبل أن يقوموا بعملية القبض على المجرم. من الواضح أن السلوك أيا كان لابد أن يكون له جوهر وجود فعل بغض النظر عن اتصورات والأحكام التي تستحضر في أذهان أفراد المجتمع ومن ثم نسبها إلى السلوك المنحرف. ولكن هذه الأحكام هي جزء من عملية وصم بعض الأفعال المحددة ووصفها بأنها سلوكيات منحرفة حيث أنها تضفي على مجموعة محددة من الأفعال صفات انحرافية فريدة.
بالرغم من أن ردود الفعل الاجتماعية لا تنتج الفعل "نفسه كالذي يعرف باللواط من قبل المجتمع"، ولكنها من الممكن أن تعطي دفعة قوية للوصمة الاجتماعية السلبية للفعل نفسه، إضافة إلى ذلك فإنها – أي ردود الفعل – تؤثر على عناصر الفعل وعلى حياة الأفراد ذكورا وإناثا يمارسون هذا الفعل، ولا يمكن أن يتواجد هذا التأثير على حياة الأفراد أو الفعل بغياب الوصمة السلبية.


التجربة العقلية
ما هو السلوك المنحرف؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من القيام بتجربة عقلية تصورية حول بعض الأفعال التي حدثت في مواقف متعددة وأمام مشاهدين مختلفين، وهذه التجربة العقلية التصورية تزودنا بالأسئلة التالية:
س1: كيف تكون ردود فعل المشاهدين؟
س2: هل هم عدائيون أم شاجبون للفعل؟
س3: هل هم محايدون؟ أم هم يمتدحون الفعل والفاعل؟
بعض الأمثلة للتصورات العقلية:
تصور أم ترى ابنتها أو ابنها يتعاطى الهيروين بالحقن، أو أب يرى ابنه يمارس بعض الأفعال الشاذة جنسيا، أو أنك ترى صديقا لك يسرق امرأة عجوزا يتراوح عمرها ثمانون عاما بعد ضربها، أو قيام أحد الجيران بضرب طفل لا تتعدى سنه الثالثة ضربا مبرحا. بعد مشاهدة أو تصور هذه المشاهد في عقولنا، ما الذي يدور في عقلك؟ ماذا تفعل؟
إذا كانت لدينا قوة التصور العقلاني والرؤية العقلانية الصحيحة فإن هذه التجربة سوف تلخص وتعرف لنا السلوك المنحرف، وهو السلوك الذي يثير الشجب والعقوبة بواسطة العديد من الناس أو بواسطة المؤثرين من أفراد المجتمع.
ففي هذه الحالات يوجد لدينا سلوك من نوع محدد قام به فرد في المجتمع، وقد قيم أو سوف يقيم (إذا علم بالفعل والفاعل) بطرق مختلفة بواسطة أفراد مختلفين من الملاحظين – أو الجماعات أو المشاهدين، ويمكن أن يكون التقييم حقيقي أو احتمالي مباشر أو غير مباشر.
ويشمل المشاهدون ما يلي:
1. الفاعلون المشاهدون أو المشاركون بالفعل.
2. الضحايا إذا كان هناك ضحايا أو ضحية.
3. الروابط الاجتماعية بالنسبة للمشاركين وأفراد آخرين حيث ليس من الضروري أن يكونوا ملاحظين مباشرين في مكان الحادث ولكن آراؤهم تؤخذ على محمل الجد من قبل المشاركين بالفعل.
4. الملاحظون المباشرون والشهود والمارة أيا كان عددهم الذين من الممكن أن يشجعوا أو يمنعوا السلوك المنحرف.
5. أفراد المنطقة السكنية أو القرية أو القبيلة أو المجتمع العام الذي يقطن به المشاركين الذين هم اجتماعيا وعاطفيا بعيدين عن الفاعل مقارنة بالمشاركين الذين تربطهم روابط اجتماعية أولية بالفاعل.
6. الممثلين للسلطة الضبطية مثل الشرطة – المحكمة – موظف السجن – المشرف الاجتماعي – الأطباء النفسيين والمدرسين.
7. الملاحظ المعزول أو المنفصل الذي يسمع ويقرأ عن السلوك والذي ليس له أي تأثير على الفاعل.
بالطبع حصر وتحديد المشاهدين في الفئات السابقة فيه نوع من التداخل، فمن الممكن أن يكون هناك أفرادا ينتمون إلى مجموعة معينة في حالة ما أو موقف معين ومن الممكن أيضا في نفس الوقت أن ينتموا إلى مجموعة أخرى في موقف آخر. والسؤال مطروح هنا هو: ما الذي يجعل نشاطا أو سلوكا معينا منحرفا؟ ولماذا يقع ضمن إطار اهتمامنا وانتباهنا كدارسين للسلوك المنحرف؟
فالتعليل والسبب من وجهة نظر شخص ما أن هذه النشاطات والأفعال مستقبحة أو مستنكرة، والفاعل كما نشعر يستحق عقوبة ما، فبعض الملاحظين الذين يتدرجون في أوضاعهم من المشاركين إلى المنعزلين سوف يقومون بشجب واستنكار الفعل والفاعل أو الاثنين معا إذا واجهوا الفعل والفاعل أو أحد أجزاء الانحراف.
لذلك فإنه من الأهمية بمكان التعرف على الجماعة التي تصدر الحكم على السلوك وعلى المشاهدين المرتبطين بالسلوك بتحديد ما هو السلوك المنحرف. فالبعض يحكم على سلوك ما بأنه منحرف ويستحق العقاب، والبعض الآخر يعتقد بأن نفس السلوك لا يستحق الاستتنكار بل وفي أحيان أخرى يستحق الثواب، هل هذا يعني أن كل شيء نسبي كما نسمع دائما؟ بالطبع لا، حيث تعتبر عملية النسبية في كل شيء الب جامد وثانوي ومليء بالأخطاء ولكن يمكن تحديد وتمييز السلوك المنحرف عن السلوك السوي من خلال ثلاثة مقاييس وهي:
1. المقياس الأول وهو العدد: حيث يمكن النظر إلى مجموع أو عدد الأفراد الذين يستنكرون ويعاقبون الفعل أو السلوك فكلما زاد عدد الأفراد الذين يستنكرون ويعاقبون الفعل كلما أدى ذلك إلى وصم ذلك السلوك بالانحراف.
2. المقياس الثاني وهو القوة والنفوذ: ففي هذا المقياس لابد من النظر إلى قوة ونفوذ الأفراد الذين يستنكرون الفعل في المجتمع، فكلما كان نفوذهم قويا وواسعا أدى ذلك إلى زيادة استنكار وعقاب الفعل ووضع وصمة الانحراف عليه. فهناك علاقة مباشرة بين النفوذ والاستنكار والعقاب وبين فعل ما. فكلما زاد نفوذ وقوة الأفراد الذين يشجبون ويعاقبون الفعل فإن ذلك يؤدي إلى شدة الوصمة الاجتماعية السلبية (المنحرفة) على السلوك، وبالتالي يمكننا تصنيفه ووضعه ضمن السلوكيات المنحرفة والتي يجب على أفراد المجتمع عدم ارتكابها واجتنابها.
3. المقياس الثالث وهو الكثافة: يرتكز هذا المقياس على شدة وقوة ردة الفعل السلبية، فكلما كانت ردة الفعل شديدة وقوية أدى ذلك – كنتيجة حتمية – إلى الزيادة في شدة وقوة العقوبة على الفعل أو السلوك ومن ثم يمكن اعتبار السلوك بأنه شديد الانحراف نتيجة لكثافة ردة الفعل السلبية تجاهه.
أنواع النسبية
المقولة الشائعة بأن كل شيء نسبي وليس مطلق يوحي ضمنا أن هناك مجموعة مختلفة من أنواع النسبية حيث يمكن حصرها في ثلاثة أنواع وهي:
1- نسبية المشاهدين للفعل أو السلوك:
ونقصد به الحكم الصادر على فعل ما بأنه طيب أو صالح أو منحرف أو سوي يعتمد بالدرجة الأولى على الملاحظ الذي شاهد وقيم الفعل. فهناك ملاحظون سوف يستنكرون فعل ما، وفي نفس الوقت هناك ملاحظون آخرون لا يستنكرون الفعل نفسه. وغالبا يطلق على هذا الاختلاف في الاستنكار أو عدمه للفعل بالنسبية الثقافية.
2- نسبية الفاعلين:
والمقصود هننا أن الملاحظين أو المشاهدين يبدأون بتقييم الفعل ووصفه بأنه طيب أو سيء معتمدين على من الذي قام بالفعل، أي الشخص الذي يرتكب الفعل هو في واقع الحال يدعو الآخرين إلى تقييم فعله.
3- نسبية الموقف:
وتعني بها ببساطة الظروف المحيطة بالفعل (أين وكيف ولماذا ارتكب الفعل) والتي أثارت ردة فعل المشاهدين ودعتهم إلى  تقييم الفعل.
نسبية المشاهدين
أما بالنسبة للمشاهدين فإن الاختلافات الرئيسية تحدث من فرد ملاحظ محدد لآخر. فبالتأكيد لا يوجد بأي حال من الأحوال فعل ما يمارس بواسطة الكل. فتقريبا أي نموذج من السلوك، مهما كان غامضا أو احصائيا غير طبيعي أو غير عادي، يستحوذ على اهتمام بعض الناس مهما قل عددهم أو كثر. إذن ففي المعنى النهائي والمطلق ليس هناك ببساطة منع حرفي ومطلق وعالمي لبعض أنواع السلوك والأنشطة. فالاختلافات حول ما يشجب ماذا متعددة وهائلة. وعليه فإن النوع الأول من نسبية المشاهدين تكون في الاختلافات من فرد لآخر شهد الفعل ويمكن أن نجد الناس الذين لا يشجبون أي فعل مهما كان ومهما يمكن تصوره.
نسبية المشاهد:
الفاعلون للسلوك ايضا في نفس الوقت ملاحظون، فهم يقيمون أفعالهم، وهناك العديد من النماذج السلوكية التي تجذب المشاركين الذين لا يشجبون – أو حتى يمتحدون – ما يقومون بفعله مع أنه يجذب على نطاق واسع شجب واستنكار الآخرين. وعلى العكس من ذلك، هناك نماذج من السلوك ترتكب بواسطة أفراد يشعرون بالذنب الشديد تجاه فعلهم، وحتى هؤلاء الأفراد الذين يشتركون في نماذج محددة من السلوك، لا يشعرون بارتياح عند مشاركتهم بالفعل، بل يشعرون بأنه يجب أن تستنكر أفعالهم شرعا من أي فرد آخر بما فيه أنفسهم، عندما يقوم بالمشاركة بالفعل. لذلك إذا كان لزاما علينا أن نفهم الاختلافات في تقييم السلوك، ربما المكان الذي يجب أن نبدأ به هو الفاعل وكيفية تفكيره واعتقاده بالتقييم.
ومازال هذا نوع أو نموذج من نسبية المشاهدين لأن الفاعل للسلوك يعكس نفسه، وينظر إلى فعله ويصدر عليه الحكم الذاتي. فعلى سبيل المثال، افرد الذي يعتدي على الأطفال جنسيا، كملاحظ يشجب فعله، وفي أحيان أخرى يبدأ بإعطاء التبريرات التي أدت به للقيام بهذا الفعل المشين، وبشكل عام المعتدي على الأطفال يشجب ويستنكر بقوة وبشدة نفس الفعل إذا ارتكبه شخص آخر، ويرفض في نفس الوقت كل التبريرات التي يعطيها الآخرون لأفعالهم. لذلك ليس كل الأفراد الذين يشتركون بالسلوك المنحرف يوافقون على أن أفعالهم يجب النظر إليها كسلوك منحرف بشكل عام. ربما يقومون بوضع بعض التبريرات العقلانية للمشاركة بالفعل من خلال إثارة وتوضيح الظروف الاضطرارية أو المخففة المتعلقة بالفعل، أو ربما ينكرون فعلهم تماما.
إذن أول وأهم ملاحظ أو شاهد على سلوك الإنسان أو الفاعل هو الإنسان أو الفاعل نفسه. فالناس يشاركون في نماذج من السلوك المستنكرة من قبل الآخرين ولكن ربما يشجبونها أو لا يشجبونها أنفسهم، فهذا يعتبر نموذج من النسبية، وتتضح الاختلافات هنا في الحكم على السلوك والنظر إليه على أنه انحراف أم لا، أو اعتبار هذا السلوك طيب أو سيء أو أي شيء آخر.
نوع آخر من نسبية المشاهدين هو الاختلافات في شجب سلوك ما من جماعة لأخرى في نفس المجتمع ومن ثقافة سفلية لأخرى. فإذا أجرينا تجربة على مشاهدين مختلفين يلاحظون فرد ما يقوم بفعل سلوك ما، فإن ردود فعلهم سوف تتدرج وتختلف عن بعضها نوعا ما. وخير مثال على ذلك هو قضية لبس النقاب في الحرم الجامعي وخاصة في كلية الطب والقرارات الصادرة بالسماح والمنع، نجد أن ردود الفعل اختلفت وتدرجت من فرد لآخر ومن جماعة لأخرى، وهذا يعني أن هناك نسبية في الشجب والاستنكار والموافقة والتأييد أو عدم الاكتراث بين المشاهدين.
وهناك نوع آخر من نسبية المشاهدين واختلافهم من مجتمع لآخر أو من حضارة لأخرى، وهذا المعنى يسمى بالنسبية الثقافية. فما يمكن أن يكون انحرافا في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يكون سلوكا طبيعيا وسويا في الكويت، فعلى سبيل المثال تعدد الزوجات من الأقرباء (بنت العم، بنت الخال، بنت الخالة، بنت العمة) يعتبر انحرافا ويعاقب فاعله أو آتيه في الولايات المتحدة الأمريكية، أما في الكويت فهو سلوك وفعل محبذ ومسموح به، ومرغوب اجتماعيا ويمتدح من قبل أفراد المجتمع.
ونسبية المشاهدة تختلف باختلاف الحقبات التاريخية أو باختلاف المراحل التاريخية، فعبادة الأصنام في الجاهلية كانت أمرا مستحبا ومشجعا من قبل تلك المجتمعات قبل الإسلام، أما اليوم هي محرمة في المجتمعات العربية والإسلامية والمسيحية واليهودية (باعتبارها ديانات سماوية ذات مصدر إلهي واحد).
نسبية الفاعل:
أما النوع الثاني من النسبية فهي التي تعتمد على اختلافات وفروقات الفاعل. فالحقيقة ما زالت قائمة وهي أن الشيء الوحيد الذي يجعل فعلا ما منحرفا هو تقييم المشاهدين للفعل ذاته، ولكن المشاهدين أيضا يختلفون بردود فعلهم باختلاف الفرد الذي ارتكب الفعل والواقع تحت التقييم، فهناك مثل يوناني يقول "ما هو مسموح لجوبيتر غير مسموح للبقر"، وجوبيتر هو كبير آلة الرومان، ويعني هذا ببساطة أن الأفراد أصحب المكانة العليا يتسامح المجتمع معهم فيما يقومون به أو يفعلونه، ولا يحكم على سلوكهم بنفس الشدة والقوة التي يحكم بها على شاغل المكانة السفلى. ولكن لا يمكن تطبيق ذلك على كل الحالات بشكل مطلق، حيث من الممكن أن يقوم فرد ذو مكانة عالية بالمجتمع بتعاطي المواد الكحولية ويتم ضبطه من قبل أفراد المجتمع وبالتالي فإن استنكار وشجب فعله من قبل العامة يكون أشد بكثير فيما إذا كان هذا الفرد (عامل نظافة) من الطبقة التحتية في المجتمع.
إلى جانب المكانة توجد هناك الصفات الشخصية للفاعل وأثرها على المشاهدين وخير مثال على ذلك إذا قام فرد ما في المجتمع بفعل معين، ومعروف عن هذا الفرد بأنه شيوعي، فإنه من المؤكد سوف يتم شجب فعله نتيجة للعوامل الشخصية الذاتية المرتبطة بهذا الفرد، ومثال آخر هو إذا كان هناك فرد سيء السمعة وذو سوابق إجرامية وقام بارتكاب فعلا إجراميا أو سلوكا منحرفا فإنه بالتأكيد سوف يكون له الأثر الكبير على المشاهدين وتقييم السلبي للفعل والفاعل.
نسبية الموقف
وأخيرا، هناك اختلافات في المواقف والظروف التي يحدث فيها السلوك المنحرف، تؤدي بدورها إلى النسبية في الأحكام الصادرة على فعل ما ومدى اعتباره سلوكا منحرفا أو سوي، فالموقف له أهمية خاصة وفريدة، حيث يتسامح الناس مع بعض الأفعال في بعض المواقف، بينما يقومون بشجب نفس الأفعال في مواقف أخرى.
إن هذا الأمر يقودنا للتصور إلى أن تقريبا كل الأفعال من الممكن أن تعتبر منحرفة في موقف وسوية في موقف آخر، أو طبيعية في موقف معين وغير ذلك في موقف آخر. ففي الواقع معظم السلوكيات المنحرفة تحتوي على سلوكيات طبيعية وعادية إلا أنها ارتكبت في مواقف غير مرغوبة، فمن الواضح إذن أن الموقف والمحتوى الاجتماعي للسلوك وضمن ملابسات محددة يثير بقوة صفة السلوك – ومدى اعتباره سلوك منحرف أو سلوك ممتثل وسوي.
فعلى سبيل المثال، العلاقة الجنسية بين الزوج والزوجة هي مثال للسلوك الطبيعي والممتثل ولكن إذا حدثت هذه العلاقة في مكان عام فإنها تكون مثالا فعليا للانحراف يتضح من ذلك أن نفس السلوك في مواقف مختلفة أدى إلى إعادة التقييم والحكم عليه بالانحراف أو السوية من قبل المشاهدين، وهذا بدوره يؤدي إلى النسبية في الحكم على السلوك المنحرف من موقف لآخر.
خاتمة:
يجب على الملاحظين والدارسين الدين لا يتسامحون مع الغموض ولا يتوقعون غير المتتوقع أن لا يقوموا بدراسة السلوك المنحرف، لأنهم سوف يندفعون لفرض نظام أكثر مما هو موجود بالفعل، أما البقية المتسامحة فإنها تجد تحليل ودراسة الانحراف الاجتماعي عملية رائعة وبناءة.

ملخص الفصل الأول
What is Deviance? A Brief Summary
ما هو الانحراف؟ خلاصة موجزة
المقصود بالانحراف هو "السلك الذي يجده بعض أفراد المجتمع مستنكرا ويثير أو من الممكن أن يثير في هؤلاء الأفراد الشجب والعقوبة والاستنكار والعدوانية تجاه الفاعل.
فالانحراف بصورة عامة هو السلوك الذي يدخلك في المشاكل ويعتمد على حكم الآخرين وهو ليس أي سلوك وإنما هو سلوك قيم بطريقة محدودة. أما بالنسبة لاعتبار بعض الأفعال أمثلة للانحراف أم لا فإنه لا يمكن معرفة ذلك حتى نستشف من الذي يعتبر هذه الأفعال منحرفة. فالأفعال والناس توصم بالانحراف، ومعايير هذه الوصمة ليست مجردة ومصطنعة وعالمية.
الانحراف هو نوع من العلاقة بين السلوك وردود الفعل السلبية الحقيقية والواقعية والمحتملة. وبدون ردود الفعل السلبية الحقيقية والمحتملة لا يوجد لدينا انحراف. فعليه يمكن القول أن ظاهرة الانحراف توجد في المنطقة الواقعة بين السلوك وردود الفعل الاجتماعية تجاه هذا السلوك.
السلوك – الانحراف – ردود الفعل الاجتماعية
لا يبرز مصطلح الانحراف في أذهان معظم الناس الصورة الشيطانية للفاعل فقط بل أيضا العقلية غير الطبيعية وغير السوية له. فالانحراف يشير إلى السلوك غير الأخلاقي والمريض. ولابد من التأكيد هنا على أن علماء الاجتماع لا يستخدمون هذه المصطلحات (غير أخلاقي – مريض) بهذه الطريقة. فالانحراف والمنحرف بالنسبة لهم مصطلحات غير تقييمية أي لا يمكن تقييمها. سوسيولوجيا هذين المصطلحين، الانحراف والمنحرف، يعنيان الأفراد والسلوكيات التي تجذب على نطاق واسع الشجب والاستنكار والعقوبة من العامة. ولفهم هذه الظواهر لابد أن نبتدع أو نقتبس بعض المصطلحات من الباثولوجيا (علم الأمراض الجسمية). فبعض أنماط الانحراف تعتبر كنتائج حتمية للأمراض العقلية، حيث بعض الأشخاص يوصمون بالانحراف نتيجة للأمراض العقلية المصابين بها. ولكن الأمراض العقلية Mental Pathology ليست موضوعات للتعريفات السوسيولوجية للانحراف. فالمقياسين مستقلين عن بعضهما تماما، حيث إن اعتبار المرض العقلي نمط من أنماط الانحراف ليس بسبب أن المرضى العقليين لديهم عقل مريض ولكن لأن حالتهم وأوضاعهم وسلوكهم تجذب للوصمة. فمعظم الأفعال والسلوكيات المنحرفة والشاذة نفذت وارتكبت بواسطة أفراد، بكل المقاييس الممكن تصورها، أصحاء وطبيعيين تماما. وبالتالي فغير الطبيعي أو المرضى أو الباثولوجي ليس له أي ارتباط أو علاقة بالتعريف السوسيولوجي للانحراف.
خلاصة:
1. في كل المجتمعات الإنسانية تحكم القواعد والقوانين السلوك الإنساني، والسلوك الذي يقيم سلبا يسمى انحراف أو سلوك منحرف.
2. يفهم الانحراف والمنحرف بواسطة الأغلبية العامة على أنه مصطلح يمكن تطبيقه بشكل خاص على المرضى والخطرين والفاسدين والعنيفين من أفراد المجتمع.
3. لتخطي هذه النظرة الشعبية من الضروري ملاحظة الانحراف والمنحرف في المواقف الفعلية.
4. يتم تحليل السلوك المنحرف من خلال ثلاثة اتجاهات أو نماذج رئيسية وهي: 
اتجاه المطلقية – الاتجاه المعياري – اتجاه ردود الفعل
5. اتجاه المطلقية يرى أن الانحراف شر عالمي ثابت وهو خرق للقوانين الإلهية الأزلية فالانحراف خطأ عالمي وبمجرد حدوثه، بغض النظر عن نظرة أي إنسان له. وبذلك يهمل هذا الاتجاه ردود الفعل المجتمعية تماما. أما اليوم وفي عصرنا الحديث لا يؤخذ هذا الاتجاه على محمل الجد من قبل علماء الاجتماع.
6. الاتجاه المعياري ينظر إلى الانحراف على أنه مخالفة رسمية أو خرق لقواعد ومعايير المجتمع.
7. يتمسك اتجاه ردود الفعل بالأفكار التي ترى أن أي سلوك، حتى نصفه أو نوصمه بالانحراف لابد أن يكون قد لوحظ أو سمع عنه من قبل الآخرين وأدين الفاعل. فالعقوبة الثابتة والنافذة هي التي تصف السلوك بالانحراف.
8. دعت الحاجة إلى عملية المزاوجة بين المذهب المعياري وبين مذهب ردود الفعل الاجتماعية والخروج باتجاه ردود الفعل الاجتماعية المعتدل، حيث أن الاتجاهين المعياري وردود الفعل يحملان في طياتهما جوانب الضعف والقوة.
9. لمعرفة الانحراف جيدا يجب على الملاحظ أن يقوم بتجربة عقلية، يتصور من خلالها المشاهدين وشهود العيان الذين يلاحظون السلوك موضع البحث. فإذا كانت ردود فعلهم سلبية تجاه السلوك والفاعل فإن هذا السلوك يعتبر مثالا للانحراف.
10. ليس كل ردود فعل المشاهدين وشهود العيان متماثلة، حيث أن السلوك الواحد من الممكن أن يمتدح أو يشجب أو يستنكر معتمدا على نوعية المشاهدين، وهذا ما يسمى بنسبة المشاهدين. فهذه العملية تشمل الاختلافات التناسبية في الثقافات السفلية من جماعة أو مجموعة اجتماعية لأخرى، والنسبية الثقافية والاختلافات التاريخية.
11. نسبية الفاعل: هي الاختلافات في ردود الفعل تجاه السلوك وهي تختلف باختلاف الفاعل أو مرتكب الفعل.
12. أخيرا ينبه المشاهدون أنفسهم بالحكم على الفعل نتيجة للمحتوى أو الموقف الذي حدث فيه الفعل أو السلوك وهذا ما يسمى بنسبية الموقف.
13. في الختام ما نقصده بالانحراف هو شيء واحد وشيء واحد فقط: هو السلوك الذي يجده بعض أفراد المجتمع مستنكرا، ويثير أو من الممكن أن يثير عدم الرضا والعقوبة والاستنكار والعدوانية تجاه الفاعل. فالانحراف هو السلوك الذي يوقع الفاعل في المشاكل.
النظريات التقليدية في الانحراف الاجتماعي:
يتساءل الإنسان لماذا النساء والرجال في الأمثلة السابقة (التجربة العقلية) تصرفوا على هذا النحو؟ هل تريد معرفة لماذا يقوم إنسان ما بالعيش في المناطق الموبوءة، أو إنسان يتاجر بالمواد المخدرة مخاطر بحياته في الوقوع بيد العدالة ودخوله السجن. أو إنسان يسطو على عربة مصفحة تحمل نقودا للبنك ويقتل حارسها، أو إنسان يقوم بالمعاكسات الهاتفية؟ ربما السؤال الذي يطرحه الملاحظون هو: ما هو نوع هؤلاء الأفراد الذين يقومون بهذه الأفعال؟ ولماذا يقومون بفعلها؟ إضافة إلى ذلك يجب أن نفكر في كيفية معاملة هؤلاء الأفراد من قبل الآخرين نتيجة سلوكهم إلى جانب وقوع مصيرهم وقدرهم في يد العدالة. فبعض أفعالهم هي مخالفة للقانون والبعض الآخر منها ببساطة هي أفعال غير مقبولة. فلماذا إذن العديد من تجار الحشيش وسارقوا البنوك حكم عليهم بالسجن، ومرتكب المعاكسات الهاتفية أرسل إلى مستشفى الأمراض العقلية، والرجال الذين يعيشون في المساكن الموبوءة والمشبوهة يتلقون المضايقات المستمرة من قبل رجال الشرطة ولكن دون زجهم في السجن أو محاولة إصلاح معيشتهم؟ ما هي الأفعال التي تعتبر إجرامية بطبيعتها؟ وما هي الأفعال التي تعتبر مخالفة للقواعد والمعايير الأخلاقية فقط؟ كيف يتم استخدام المقاييس في عملية التجريم وأثناء اقتراح ووضع وسن القوانين التي تحرم بعض السلوكيات وتعطي الصلاحية للجهات التنفيذية للقبض على مخالفها أو فاعلها.
على مر السنين حاولت العديد من النظريات تفسير كيفية وضع القواعد وخرق القواعد وردود الفعل تجاه مخالفة القوانين والقواعد، الاجتماعية والوضعية. بمعنى آخر فقد حاولت نظريات الانحراف أن تجيب على سؤال أو مجموعة من الأسئلة التالية:
س1: لماذا يقوم الإنسان بهذا الفعل؟
س2: لماذا يعتبر أو لا يعتبر خطأ؟
س3: لماذا فعلهم خرق أو امتثال للقوانين؟
س4: ما هي ردود الفعل لدى الناس عندما يقوم فرد ما بخرقها؟ ولماذا؟
الأسئلة المتعلقة بصنع القوانين والقواعد وردود الأفعال الناتجة عن مخالفة هذه القوانين إنما هي محاولات حديثة. أما النظريات الأولى في تفسير الانحراف فقد ركزت على الأسئلة المتعلقة بخرق القواعد والقوانين وخاصة للإجابة على السؤال التالي: لماذا يقوم الأفراد بخرق ومخالفة القواعد والقوانين؟
كل المجتمعات التي ظهرت على سطح الأرض وجدت فيها القواعد والأحكام التي تملي على الأفراد السلوك المناسب والمعقول وكنتيجة حتمية، لابد أن يكون هناك من خالف هذه القواعد والأحكام وعمل على خرقها. ففي كل مكان يتساءل الأفراد الصالحين والمحافظين والممتثلين للقانون عن لماذا يقوم بعض الناس بارتكاب الأعمال السيئة مثل الإلحاد، والشعوذة، والقتل، والسرقة، والزنا، وزنا الأقارب، والجبانة، والخيانة، باختلاف الزمان والمكان؟
هذه الشكوك والتساؤلات المتعلقة بسببية السلوك المنحرف كانت جل اهتمام الثقافات بمختلف المراحل التاريخية. ففي كل مكان وجدت التوضيحات والنظريات التي تحاول تفسير لماذا يقوم بعض أفراد المجتمع بمخالفة القواعد والمعايير الاجتماعية.
تاريخيا يعتبر التفسير القائم على سيطرة الروح الشيطانية أو الجن كسبب للسلوك المنحرف من أقدم التفسيرات. فالروح الشريرة والتي تشمل الشيطان أعتقد أنها السبب في اشتراك الرجال والنساء في الأعمال غير المقبولة. فقبل 500 ألف سنة (في العصر الحجر) عمل أفراد المجتمع على ثقب جمجمة الأفراد المشتركين في الأعمال السيئة من نوع ما (اليوم يعتبرون مرضى عقليين) من أجل إفساح المجال أو الممر الشيطاني الهروب من جسم هؤلاء الناس.
واليهود والمصريون واليونان والرومان القدماء مارسوا الطقوس لفصل المخلوقات الشيطانية التي تسكن في جسم وعقل المجرم. أما في العصور الوسطى فإن الآلاف من النساء والرجال عذبوا وحرقوا في الحال نتيجة لقيامهم بأعمال أرجعت أسبابها في الأساس إلى الروح الشيطانية.
أولا: الإرادة الحرة:
المدرسة الكلاسيكية:
يطلق على فترة القرن الثامن عشر في أوروبا تسمية "عصر التنوير أو عصر السببية". فقد عزل الفلاسفة والعلماء فكرة "تدخل الأرواح الشريرة" في تفسير الظواهر الأرضية العالمية، واستبدلوها بفكرة التركيز على العوامل المادية الملموسة. وتبلورت هذه الفكرة من خلال النظرة إلى أن مخالفة القواعد والقوانين والمعايير سببها الإرادة الحرة أو حرية الاختيار المستخدمة في التقييم والرؤية العقلانية لموازنة المتعة والألم، وليس بسبب الإغواء الشيطاني أو الروح الشيطانية الداخلة في الإنسان. ورأى علماء المدرسة الكلاسيكية أن الأفعال التي تجلب المتعة والمنفعة واللذة، بالرغم من خطورتها وإيذائها للآخرين، سوف يستمر فاعلها بارتكابها، أما الأفعال التي تجلب الألم والأذى فإن فاعلها سوف يبتعد عن اتيانها. بمعنى آخر، أن الإنسان عقلاني يميز بين أفعاله من خلال اللذة والألم فكلما كانت اللذة أكثر من الألم كلما استمر الإنسان بفعله "والعكس صحيح" بغض النظر عن مدى إيذائها للآخرين. ويرى علماء الإرادة الحرة أن الطريقة أو السبيل لتدعيم الامتثال للمعايير المجتمعية يكون من خلال القبض على المخالفين ومعاقبتهم بحيث يكون الألم أو الأذى الناجم عن العقوبة للفعل الأكبر وأعظم من المنفعة واللذة التي حصل عليها الفاعل من فعله.
لقد وضعت المدرسة الكلاسيكية مجموعة من الافتراضات التي تعتبر اليوم خاطئة أو غير صحيحة، حيث تجاهلت التباين في الثروة والقوة بين أفراد المجتمع، وبالتالي كنتيجة حتمية فشلت في تمييز العوامل والدوافع التي تجعل بعض أنواع الجرائم أو السلوكيات المنحرفة أكثر انتشارا بين الفقراء عنها عند الأغنياء. بالإضافة إلى ذلك فإننا نرى اليوم أن الناس ليسوا عقلانيين تماما في سلوكياتهم اليومية، فهم يشتركون في السلوك المنحرف ويرتكبون الجريمة نتيجة للعديد من الأسباب والعوامل وليس بسبب فكرة السعي وراء تحقيق المتعة وتجنب الألم. وعلاوة على ذلك، وفي معظم الأحيان، فإن مخالفة القواعد والمعايير ترتكب دون القبض على الجاني، وبالتالي فإن الرجوع إلى العملية الحسابية العقلانية للمتعة والألم، والتي قام بها الفاعل، يعتبر أكثر تعقيدا وصعوبة وليس بسهولة وبساطة تصور هؤلاء العلماء. بمعنى آخر كيف يمكن معرفة الحسبان العقلاني للمتعة والألم من قبل فاعل مجهول؟
ونتيجة لنقاط الضعف في هذه المدرسة، فقد ابتعد عنها العلماء اليوم ولم تعد تدخل في التحليلات النظرية والعملية التي يقوم بها العلماء المعاصرون في تفسير السلوك المنحرف.
ثانيا: المدرسة الوضعية:
وصف القرن التاسع عشر بأنه القرن الذي ظهرت فيه نقطة التحول من النظرة إلى الناس على أنهم أفراد عقلانيين يعون ويفهمون الأسباب والنتائج المترتبة على أفعالهم إلى النظرة التي ترجي أن السلوك الإنساني يتحدد بواسطة قوى فوق طاقة الفهم والضبط والإرادة العقلانية عند الإنسان.
والمدرسة الوضعية كأحد الاتجاهات العلمية السائدة في القرن 19 ترى أن المعلومات الحقيقية والصحيحة هي التي جمعة بطريقة علمية بحتة. والمقصود بالطريقة العلمية هنا أنه يمكن ملاحظة المعلومات بواسطة الحواس الخمسة (الشم – اللمس – النظر – التذوق – والسمع) ويمكن التأكد منها وتدقيقها من قبل ملاحظين مستقلين. فقد آمن الوضعيون بأن السلوك حدد أو حدث كنتيجة مباشرة لمجموعة من العوامل أو القوى التي يمكن اكتشافها وتوضيحها من قبل العلماء.
آمنت المدرسة الوضعية بالافتراض القائل بأن السلوك المنحرف حدث نتيجة للأمراض البيولوجية أو بسبب خلل أو عاهة جثمانية معينة. فالأعمال السيئة كالسلوك الإجرامي مثلا، افترض أنه من الممكن تتبع مصدره وإرجاعه للخلل العضوي في المجرم أو المنحرف. إضافة إلى ذلك افترض بعض أصحاب هذه النظرية أن المنحرفين ببساطة هم الأفراد الضعيفي العقل أو المرضى العقليين بحيث لا يستطيعون أن يفهموا أحكام وقواعد المجتمع. وبالتالي قهم يقومون بخرق ومخالفة هذه القواعد. ومن أشهر كتابات المدرسة الوضعية وأكثرها انتشارا وتأثيرا في القرن التاسع عشر كانت للعالم والطبيب الإيطالي سيزار لومبروزو (1835-1901). فقد رأى هذا الطبيب أن الانحطاطات الجثمانية لأفراد معينين هي التي دفعتهم إلى ارتكاب الجرائم. والمجرمون في نظرة يمثلون ارتدادا تطوريا أو وراثيا للإنسان البدائي أو الإنسان الشبيه بالقرد.
ولهذا فإن المدرسة الوضعية ترى بأن الاختلال في التكوين الجثماني أو الأمراض الجسمانية هي العوامل الرئيسية التي توضح وتعلل سبب حدوث الفعل الإجرامي والمنحرف. ولكن في نهاية القرن التاسع عشر أدرك الباحثون والعلماء أن الاختلافات الجثمانية لا يمكنها تفسير كل أو معظم الانحرافات عن القانون ومعايير المجتمع. حتى أن لومبروزو نفسه على مر السنوات ونتيجة للانتقادات التي وجهت إليه قام بتعديل نظريته وأعطى دورا ضئيلا جدا للأمراض البيولوجية والجسمية كسبب للسلوك الإجرامي والمنحرف.
ومع أنه حتى يومنا هذا يوجد هناك مجموعة قليلة من العلماء الذين يعطون للعوامل البيولوجية أهمية في أحداث السلوك المنحرف إلا أن هذا الاتجاه بشكل عام بدأ بالضمور والاختفاء عند تفسير الانحراف والجريمة.
ثالثا: اتجاه الأمراض الاجتاعية
أطلقت هذه التسمية على الاتجاه الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث شبه هذا الاتجاه المجتمع بالكائن الحي والانحراف بالمرض الذي يصب هذا الكائن الحي. وقد رفضت مدرسة الأمراض الاجتماعية فكرة الاختلال والأمراض الجثمانية كسبب مباشر للانحراف والجريمة. ورأت أن المنحرف هو الشخص الذي لا يستطيع ولن يتكيف ويتأقلم مع القوانين والقواعد والقيم والمعايير في المجتمعات التقليدية. فالانحراف بالنسبة لهذا الاتجاه يمثل حالة عدم القدرة على الاندماج في الجسم الاجتماعي الصحي والطبيعي.
وبوجه عام ترى هذه المدرسة أن السبب الرئيسي المحدث للسلوك المنحرف خاصة وللمشاكل الاجتماعية عامة هو الفشل وعدم القدرة على التكيف الاجتماعي.
لم يثق معظم علماء هذا الاتجاه بالمدن الكبيرة ورأوا أن المجتمع السليم هو المجتمع المتوافق والمتجانس وذو تغير اجتماعي بطيء. فالمدن على العكس من ذلك تنتج الصراع والاختلافات والتغيرات الاجتماعية السريعة، وهذا بدوره يشجع الأفراد على عدم الامتثال للقواعد والمعايير وعلى ارتكاب السلوك المنحرف. إضافة إلى ذلك رأى علماء هذا الاتجاه بشكل عام أن معايير الطبقة الوسطى في المجتمع هي المعايير الطبيعية والصحيحة، أما معايير الطبقة التحتية أو السفلى أو الطبقة العاملة فهي مرضية وغير طبيعية والانحراف هو ظاهرة خاصة بالطبقة السفلى أو الدنيا في المجتمع.
ولحل مشكلة تكيف وتأقلم الفقراء والرذيلة والجرائم والبطالة وجناح الأحداث والعنف يجب إعادة عملية التكيف والتنشئة الاجتماعية لهؤلاء المنحرفين من خلال قبول معايير وقيم الطبقة المتوسطة أو الوسطى وتشجيع الامتثال والخضوع لمعايير السلوك فيها.
لقد استمتع اتجاه الأمراض الاجتماعية بالشهرة خلال الفترة ما بين 1890-1910 إلى ما يقارب العشرون عاما. ولكن عند نهاية الحرب العالمية الأولى بدأ هذا الاتجاه بالضمور والانحلال ولم يؤخذ به من قبل علماء الاجتماع عند دراستهم للانحراف والمشاكل الاجتماعية الأخرى. ففي حقيقة الأمر المجتمع لا يشبه الكائن العضوي والانحراف لا يمكن اعتباره آليا كالمرض. والجدل القائم حول أن السلوك الضال أو الشارد أو الذي يبتعد عن المحترمية (كون الشيء محترما أو جديرا بالاحترام أو المحترمون من الناس) أو التقاليدية (التمسك بالتقاليد) من الضروري أن يكون غير طبيعي أو مرضي إنما هو جدل أو حكم قيمي وليس جدل أو حكم موضوعي. فمن الممكن أن يكون سلوكا ما أيا كان معقولا أو غير طبيعي معتمدا على التصورات والاتجاهات الذاتية للفرد. فالنقص الواضح في اتجاه الأمراض الاجتماعية هو النظرة النسبية للانحراف.
رابعا: التفكك الاجتماعي ومدرسة شيكاغو:
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مباشرة ظهرت مدرسة فكرية اهتمت بالتفكك الاجتماعي والانحراف وهي امتداد لاتجاه الأمراض الاجتماعية ولكنها في نفس الوقت قامت على أخذ مكانة الاتجاه السابق في تفسير السلوك المنحرف. وقد سميت بمدرسة شيكاغو بسبب أن معظم علمائها وممارسيها كانوا من أساتذة وطلبة الدراسات العليا في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تحولت النظرة المرضية من الأفراد إلى البناء الاجتماعي. فعندما كان اتجاه المرض الاجتماعي يرى أن الأفراد ينحرفون نتيجة لفشلهم في التكيف مع معايير المجتمع الذي يعيشون فيه، رأت مدرسة شيكاغو أن مجمل أو كل الأحياء السكنية أصبحت مفككة اجتماعيا بحيث جعلت الأفراد ينحرفون بسلوكياتهم حتى يمكنهم التكيف والعيش في هذه الأحياء السكنية. فالتفكك الاجتماعي هو أحد العوامل الرئيسية التي تفسر الانحراف والسلوك المنحرف وهو نتيجة حتمية لظهور المدن والمناطق الحضرية. فكلما تمت وتطورت وكبرت المدن أصبح حتميا أو يواجهه سكانها الغرباء في المجتمع المدني الكبير. وهذا بدوره شجع على مسخ الشخصية الإنسانية، والبعد الاجتماعي وانهيار التوافق الاجتماعي. ومن ثم بدأ الأفراد الشعور بعدم الاشتراك في قيم موحدة وعدم الاهتمام بما يتصوره ويتوقعه الآخرون والعكس. ولكما كبرت المدينة كلما فقد وانهار الإحساس والشعور لدى الأفراد بالانتماء إلى المنطقة أو الحي السكني. وكلما زاد مقدار التفكك الاجتماعي وعدم التنظيم الاجتماعي في منطقة ما كلما زادت كمية ونوع السلوك المنحرف في تلك المنطقة.
إن مفهوم التفكك الاجتماعي مفهوم نسبي. بمعنى أنه ليس كل الأحياء السكنية متساوية في مقدار التفكك الاجتماعي أو عدم التنظيم الاجتماعي، حيث أن نسبة الانحراف تختلف من منطقة لأخرى. فهناك الأحياء غير المتوازنة جغرافيا، والكثيرة الحركة تحتوي على مجموعة مختلفة من الأعراق والأقليات والمهاجرين إلى جانب النقص الواضح في القوة الضبطية هي المناطق التي يتكرر فيها حدوث السلوك المنحرف. بكلمات أخرى، يرى علماء اجتماع شيكاغو ويصروا على أن الانحراف يختلف انتظاميا من خلال الموقع الجغرافي الطبيعي للمنطقة، حيث المنطقة السكنية هي التي تحدد ما إذا كان الفرد سوف يرتكب سلوكا منحرفا أو سلوكا سويا. فالانحراف قد يكون غائبا في بعض المناطق والأحياء السكنية ويكون متكررا بشدة وباستمرار في أحياء أخرى. وقد أعطت مدرسة شيكاغو أهمية كبرى للأيكولوجية والتي تنظر إلى الاتكال المتبادل بين أفراد الحي والمسافة الطبيعية للسكن كعوامل محددة للسلوك الإنساني. وفوق هذا وذلك ترى مدرسة شيكاغو أن درجة التفكك الاجتماعي وسوء التنظيم الاجتماعي سواء كانت مرتفعة في بعض المناطق أو منخفضة في أخرى هي السبب المباشر للانحراف والجريمة.
وفي نهاية الأمر فقد أهملت وهجرت نظرة مدرسة شيكاغو وتركيزها على سوء التنظيم الاجتماعي في تفسير الانحراف. فقد وجد الباحثون أن المناطق الفقيرة أظهرت درجات كبيرة من التماسك الاجتماعي الذي تجاهله علماء مدرسة شيكاغو فقط بسبب أنها اختلفت عن التماسك الاجتماعي الموجود في الطبقات المتوسطة.
لقد عانت مدرسة شيكاغو من النقد الموجه لها بأنها ذات نظرة متحيزة للطبقة المتوسطة نتيجة لافتراضها أن السلوك الذي ينحرف ويبتعد عن السلوكيات المحترمة التي يمارسها أفراد المدن الصغيرة هو سلوك غير منظم أي منحرف. فهناك العديد من الأنشطة المرفوضة والمنحرفة تمارس بواسطة أفراد من ذوي النفوذ ومن الطبقة المتوسطة وتكون بنفس الكمية من السلوكيات التي يرتكبها أفراد الطبقة السفلية. بمعنى آخر أن أفراد الطبقة المتوسطة أو السفلية على السواء يرتكبون بمقدار متساوي من السلوكيات المنحرفة في مجتمعاتهم. ولكن الخطأ المميت الذي وقعت مدرسة شيكاغو فيه هو افتراضها أن الانحراف ظاهرة خاصة بالطبقة السفلى. وهذا الافتراض ناتج عن قيام مدرسة شيكاغو بدراسة البغاء والإدماء على المواد الكحولية والمخدرات في الشارع (عند العامة) دون الاهتمام بالبغاء والسكر وتعاطي المواد المخدرة للترفيه في الطبقة المتوسطة. وبذلك تكون مدرسة شيكاغو قد عرضت ومارست نفس نوع التحيز وضيق في أفق التفكير الذي تميزت به النظريات السابقة، وعند بداية الأربعينيات ظهرت نهاية نظرية مدرسة شيكاغو التي ارتكزت في تفسيرها للانحراف على التفكك الاجتماعي.
إن هذا النوع من الاتجاهات الفكرية النظرية والعلمية ساهم على أقل تقدير مساهمة مباشرة في دراسة الانحراف حيث اعتمدت على النظرة الثاقبة والملاحظة المباشرة لمجموعة متعددة ومتنوعة من السلوكيات المنحرفة. وقد استخدم علماء هذا الاتجاه مدينة شيكاغو كمعمل تجريبي حي أو ميداني ودرسوا من خلاله مواضيع ومشاكل اجتماعية هامة مثل الأحياء الفقيرة وجناح الأحداث وإدمان المخدرات والمرض العقلي وعلاقات الأعراق والأقليات المختلفة والكحولية بين المشردين. وتميزت أعمال رواد هذه المدرسة بمحاولة لتحسين الحالات المعيشية لتلك المناطق. وفي نفس الوقت فقد كان هناك إسهاما مباشرا لهذه النظرة الواقعية والفعلية للمجتمع كما هو الواقع. كذلك رفض علماء الاجتماع في شيكاغو البحوث النظرية التي لم تعتمد على الانصال بالعلم الحقيقي والفعلي. فهم يصرون على أنه إذا أراد أي باحث معرفة حقيقة المجتمع فمن الضروري أن يخرج إلى الحياة الاجتماعية اليومية والفعلية ويدرسها كما هي عليه أو في واقعها الفعلي والطبيعي.
خامسا: المدرسة الوظيفية
ظهرت الوظيفية كاتجاه نظري في الثلاثينيات كناتج أولي لكتابات وتدريس العالم الأمريكي تالكوت بارسونز (1902-1979) الذي نظم أفكار مجموعة من علماء الاجتماع الأوروبيين منهم فالفريدو باريتو (1848-1923) الذي بين أن المجتمع عبارة عن نسق اجتماعي وأميل دوركايم (1858-1918) الذي ركز على أسباب ونتائج التماسك الاجتماعي إضافة إلى تركيزه على الظاهرة التي أطلق عليها الضمير الجمعي أو العقل الجمعي.
قامت المدرسة الوظيفية بطرح السؤال الأساسي التالي: كيف يكون النظام الاجتماعي ممكنا؟ وقد قدمت الإجابة على هذا السؤال على النحو التالي:
قامت المجتمعات بصورة أو بأخرى وبطريقة غير مقصودة بحماية نفسا على مر السنين بواسطة تحريم الأفعال المؤذية وتشجيع الأفعال المفيدة. فالعادات والمؤسسات الاجتماعية التي استمرت وبقيت عبر الزمان هي مفيدة للمجتمع لأنها تخدم الوظيفتين السابقتين (المنع والتشجيع).
فالانحراف وفقا لما يراه الوظيفيون يمكن أن يكون مفيدا أي وظيفي أو ضارا أي اختلال وظيفي للمجتمع ككل. فبعض الأنشطة تعزز وتنشئ الاستقرار الاجتماعي والتكامل والتماسك وبالتالي تكون ذات وظيفة أو وظيفية. وهناك البعض الآخر من الأنشطة بطبيعتها تنتج العدوانية والتنافر بين أفراد المجتمع وتجعل المجتمع أقل استقرار وأقل نموا وبالتالي تكون ذات اختلال وظيفي للمجتمع. فهناك أفعال محرمة وموصومة عالميا بسبب أن الأنشطة التي تدور حولها في صلبها بذرة الصراع في المجتمع. فبعض الأنشطة المحددة تعتبر انحرافا في كل مكان بسبب تهديدها للنظام الاجتماعي.
لا يمكن الإسهام الحقيقي للمدرسة الوظيفية في تحليلها الذي يبين ويظهر أن هناك أنماط محددة من الانحراف مؤذية أو بها اختلال وظيفي وبالتالي تحريمها مفيد وإيجابي ووظيفي ولكن إسهامها الفعلي يظهر باعتبارها مدرسة واتجاه مهم ومتطور عن الاتجاهات السابقة بدرجة كبيرة نتيجة لتشديدها على أن هناك نماذج من الانحراف لها تأثير إيجابي وتكاملي على المجتمع. فأغلبية – إن لم يكن كل – الوظيفييين شددوا على وظيفة وليس الاختلال الوظيفي للسلوك المنحرف. بالطبع، وفي أحوال كثيرة فإن معظم أفراد المجتمع لن يتعرفوا على هذه التأثيرات سواء إيجابية كانت أو سلبية. فربما تكون هذه التأثيرات محجوبة أو متوارية عن الأنظار أو غير معترف بها أو كما يطلق عليها الوظيفيين مصطلح النتائج الكامنة للسلوك المنحرف.
يرى الوظيفيون أن الانحراف عادة يكون ذا فائدة للمجتمع، أي رحمة متخفية أو مكنية. فقد رأى عالم الاجتماع الوظيفي المشهور حتى يومنا "روبرت ميرتون" أن الرئاسة السياسية وآلة الأحزاب المحلية بالرغم من أ،ها فاسدة وغير كفؤة ومحابية أو متحيزة ومنغمسة بعمق في الأنشطة الإجرامية إلا أنها تؤدي وظيفة اجتماعية أساسية وهي المساعدات الإنسانية والشخصية للمحتاجين. وهذا بالطبع يعمل على توحيد وتماسك الأحياء السكنية ويقوي تأثيرات ركائز المجتمع ككل. فبينما رأى اتجاه الأمراض الاجتماعية أن الانحراف سوف ينتج حتما تأثيرات غير مرغوبة في المجتمع، رأى الوظيفيون أن التأثيرات التي يراها ويعترف بها كل فرد في المجتمع على أنها مرغوبة تخرج عادة من السلوك المنحرف.
وبينما رأت الاتجاهات السابقة الانحراف على أنه سلوك يتعذر الدفاع عنه أو شيء يجب التخلص منه من خلال السلطة الحادة والقوية، رأي الوظيفيون أن الانحراف طريقة الحياة الواضحة والتي من الممكن المحافظة عليها للعديد من أفراد المجتمع. فاستمرار الانحراف وحقيقة وجوده الفعلي في كل مكان ومن خلال التاريخ، يبين أن الانحراف يسهم بإيجابية لأفراد المجتمع المشتركين بالفعل وللمجتمع ككل. وأخيرا فحينما رأت الاتجاهات الأولية الافتراق والتمييز بين الانحراف والتقاليدية، والفجوة أو الفراغ الذي يفضل بين الأفراد الصالحين والأفراد السيئين، نظر الوظيفين إلى العلاقة بين الانحراف والتقاليدية نظرة متصلية (أي قائمة على علاقة الاتصال المستمر والدائم). وقد رأوا أن الانحراف يظلل على السلوك التقليدي أو السوي. فمعظم ما يعتقده ويفعله الأفراد المطيعون للقانون يقع على حدود السلوك المنحرف وليس في إطاره. فهناك انحراف ولو صغير جدا في معظم السلوكيات التقليدية، وانحرافات أولية أو ابتدائية في معظم الأرواح المحافظة. فهنا يجب علينا كما ترى المدرسة الوظيفية أن ننظر إلى الانحراف من خلال مصطلح المنظور الطولي أو الخطي (مؤلف من خطوط شبيهة بخط مستقيم) وليس من خلال النظرة الأحادية أو التقسيم الثنائي للألوان إما أسود أو أبيض. فهناك تواصل مستمر بين ما هو حقير وبين ما هو محترم والخط الفاصل بينهما ليس له وجود فعلي. كذلك العلاقة بين الرذيلة والفضيلة علاقة معقدة وليست بسيطة وهي أيضا علاقة متصلة وليست منقسمة.
قدم الوظيفيون نظرة ثاقبة حول لماذا توتجد القواعد وبالتالي الانحراف بالدرجة الأولى. ففي وقتها وطريقتها المتواضعة قدمت الوظيفية إسهاما رئيسيا، حيث طهرت حقل تفسير الانحراف من وجهة نظر التضمين المرضي الآلي. وأنه ليس من الضروري أن يكون نتيجة لظروف غير مرغوبة وغير طبيعية وبالتالي لا يحدث الانحراف دائما نتائج سلبية. والانحراف يكون في الواقع جزء وقطعة من الوظائف الطبيعية لأي مجتمع.
لم تخل المدرسة الوظيفية من القصور في تفسير الانحراف ونتيجة لذلك وجه إليها العديد من الانتقادات أهمها:
1. أنها قامت وعملت على تبرير ما هو موجود أو ما يسمى بالوضع الراهن في تفسيرها للانحراف.
2. عدم قدرتها على التحليل أو التنبؤ بالتغير الاجتماعي وأثره على الانحراف.
3. تجاهلت المدرسة الوظيفية الصراع بين الجماعات المتعددة والمختلفة وكذلك الصراع القائم بين الطبقات المتعددة ودور هذا الصراع بأنواعه على الانحراف. 
4. فشلت في ملاحظة الاختلافات والفروقات في القوة والثروة وأثرها على الانحراف.
ومع هذه الانتقادات إلا أن المدرسة الوظيفية سيطرت على علم الاجتماع كاتجاه فكري من (1940-1960) ولكنها لم تظهر كاتجاه رائد في دراسات الانحراف الاجتماعي بشكل خاص. ومنذ الستينات بدأ هذا الاتجاه النظري يفقد تأثيره في علم الإجرام ودراسة السلوك المنحرف بحيث أصبح كمرجع تاريخي في يومنا هذا.نظرية الأنومي
ولدت نظرية الأنومي سنة 1938 عندما نشر عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون مقالته بعنوان "البناء الاجتماعي والأنومي. متأثراً بكتابات عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم في القرن التاسع عشر حول الانتحار، نظر ميرتون نظرة ثاقبة إلى السلوك المنحرف، ورأى أنه من الممكن أو يحدث السلوك المنحرف كنتيجة للاختلال في الانتظام الاجتماعي وهو ما يطلق عليه علماء الاجتماع حالة "الأنومي". وتساءل ميرتون، لماذا يختلف تكرارية السلوك المنحرف بشدة من مجتمع لآخر، ومن جماعة لأخرى في نفس المجتمع؟ حيث افترض أن الإجابة على ذلك من الممكن أن نجدها في الآتي "أن البناء الاجتماعي يمارس ضغطاً محدداً على أفراد محددين في المجتمع للاشتراك في أفعال منحرفة وغير ممتثلة لقواعد المجتمع بدلاً من الأفعال السوية".
ويعلل ميرتون بأن هذه الضغوط من الممكن ان تنتج سلوكاً غير تقليدي أو منحرف من سلوك تقليدي الأصل والدافع.
ما هي نماذج الضغط الاجتماعي التي تميل إلى إنتاج نسبة عالية من السلوك المنحرف؟
يحددها ميرتون في الأهداف التي يحددها المجتمع "والتي تطرح على أساس أنها أهداف شرعية لكل أو لمجموعات متعددة ومختلفة من أفراد المجتمع". ويدعى ميرتون أن هذه الأهداف، مشتركة على نطاق واسع، وكل فرد في المجتمع يتمنى الوصول إليها وتحقيقها. ويسأل ميرتون: ما هي هذه الأهداف في مجتمعنا؟ بالدرجة الأولى نعني النجاح المادي (تحقيق الثروة).
أي أن يحق ويصل الفرد إلى أهدافه من خلال منظور الحلم الأمريكي. بمعنى أن يكون غني. فنحن يفجر علينا من كل الجوانب الرسالة التي تدعو إلى الوصول إلى القمة والنجاح. وهذه تقريباً أحد القيم الأمريكية العامة وهدف أساسي يطمح إليه كل أفراد المجتمع.
كل مجتمع يضع بعض القيود على كيفية تحقيق الأهداف الثقافية المحددة. بينما يعطي كل فرد في أهميته وقيمة للثروة والغني في المجتمع، ولكن كيفية السماح لنا للحصول على تلك الثروة إنما هو سؤال آخر. تختلف ولكن كيفية السماح لنا للحصول لعى تلك الثروة في قيودها على كيفية الوصول إلى بعض الأهداف المحددة. فعلى سبيل المثال، الضرب المبرح والرشوة والغش في الامتحانات لا تعتبر طرق وقنوات شرعية لتحقيق الأهداف أو الحصول على درجة امتياز "A" في المادة. وبما أن بعض هذه الطرق أو الوسائل ربما تكون ناجحة وعملية من وقت لآخر، إلا أن النظام الاجتماعي للتعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية يتجهم منها – فهي ليست وسائل مقبولة للوصول إلى الهدف وهو تحقيق الدرجة العالية في المادة.
ولكن في بعض البنيات الاجتماعية، فإن أهمية بعض الوسائل المحددة التي اختيرت لتحقيق أهداف محددة ربما تكون ذات نتائج محدودة أو ربما معدومة. فبعض المجتمعات تمارس ضغطاً كبيراً على الأفراد لتحقيق بعض الأهداف، ولكنها تظل متسامحه مع كيفية الوصول إلى هذه الأهداف. فهنا يوجد لدينا حالة "النجاح والربح بأي طريقة أو بأي ثمن". ويستطرد ميرتون بقوله أنه لدينا هذا الموقف في المجتمع الامريكي الحديث، فالثقافة الأمريكية الحديثة مستمرة بخاصيتها التي ترتكز على الثروة كرمز متوازياً لعى القنوات الشرعية التي يجب سلكها للوصول إلى هذا الهدف. فنحن لدينا مجتمع اكتسابي أو اقتنائي، حيث فيه النزعة النفعية قاعدة علياً أو سامية".
والسؤال الأساسي يصبح كالآتي: أي الخطوات المتاحة ذات فاعلية قصوى في تشبيك وتعزيز القيم المقبولة ثقافياً؟ بكلمات أخرى، إن المهم هو أن تصل للهدف، ولكن كيفية تحقيقه أ, الوصول إليه إنما هي عملية تأتي في المرتبة الثانية أو أقل أهمية. ففي أمريكا الحديثة، يوجد لدينا صراع بين الثقافة تعلمه الأفراد من طموحات)، وبين البناء الاجتماعي والاقتصادي (الفرص المتاحة لهم للنجاح). بمعنى آخر يوجد لدينا مجتمع غير متجانس. فالطموحات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحقق بواسطة المصادر المادية المتاحة. فبينما طموحات السكان غير محدودة، إلا أن فرصهم الفعلية للنجاح محدودة ومقيدة. وهذا بدوره يخلف ضغطاً نحو الاتجاه إلى السلوك المنحرف، وعندما يكون هناك نسق من القيم الثقافية تمجد، فعلياً فوق كل شيء، مجوعة محدودة من أهداف النجاح الكبيرة بينما يقيد البناء الاجتماعي بقوه أو يقفل تماماً المداخل أو طرق الوصول إلى الوسائل الشرعية لتحقيق هذه الأهداف على شريحة كبيرة من الأفراد في نفس المجتمع، هنا ينشأ السلوك المنحرف على مقياس واسع. وقد كتب ميرتون يقول:
" أنها فرضيتي الأساسية، أن السلوك المنحرف
أو الشاذ ربما يعتبر اجتماعياً أو سوسيولوجياً
كأحد أعراض الانفصال والفرقة بين الطموحات
المفروضة والمقره ثقافياً والقنوات المنظمة
والمحددة اجتماعياً لتحقيق هذه الطموحات"
ماذا يفعل هؤلاء الناس الذين هم عرضه لهذه الضغوطات المتناقضة للتكيف معها. وما هي أشكا لحل الصراع التي يمكن أن نتوقعها من الأفراد الذين يعيشون في هذا النوع من البناء الاجتماعي؟ وما هي بالضبط أنواع الانحراف التي من الممكن أن نتبناها من قبل الأمريكيين المتعطشين للنجاح؟. لقد قام ميرتون برسم تنميطات للاستجابة المختلفة نحو تحقيق الأهداف، وكذلك الوسائل الشرعية مقابل الوسائل غير الشرعية لتحقي هذه الأهداف.
أولاً: الامتثال والخضوع:
الامتثال كطريقة للتكيف، (وتعني قبول الأهداف الثقافية للنجاح والوسائل المجتمعية والمؤسسية والتقليدية للوصول إلى هذه الأهداف)، هي ليست من اهتمام طلاب ودارسي الانحراف الاجتماعي، ما عدا انه يمكن اعتبارها كمثال سلبي. وقد تم وضعها ضمن التنميطات ببساطة لمقارنتها مع بقية أشكال الانحراف. فعندما يصبح الفرد محامياً، أو محاسباً أو طبيباً، ويكافح من أجل النجاح المادي من خلال مهنته – ويصبح غنياً من خلال ممارسة المهنة الشرعية والقانونية بطريقة محترمة وممتثلة لقانون – فإنه يصبح مثالاً للأمثال والخضوع كطريقة عامة لللتكيف. في الواقع، مع معطيات القوة لقيم النجاح في المجتمع، ومعطيات الفرص المحدودة نسبياً للنجاح الحقيقي لكل السكان، فإن من المدهش أن نجد الكثير من الأمريكيين يختارون طريقة الامتثال. والامتثال على أي حال لا يعتبر انحرافاً.
ثانياً: الابداعية والاختراع
تتضمن طريقة التكيف التي اسماها ميرتون الابداعية قبول هدف النجاح، ولكن اختيار الوصول إلى الهدف يتم من خلال طرق غير قانونية وغير شرعية أو منحرفه. فهذا التكيف. فقد خصص لوصفها مكاناً كبيراً بحيث أصبح مكانها أكبر بكثير من مكان بقية  الحالات الأخرى مجتمعة وعملية التكيف الإبداعي أو ألابتكاري تحدث عندما يستوعب الفرد ووسائل الحصول على الهدف. فطريقة التكيف الابتكارية أو الابتداعية إلى جانب الضغوطات من الثقافة والمجتمع الأمريكي سوف تشمل أكثر تصنيفات النشاطات الإجرامية الموجه للربح المادي مثل: جرائم ذوي الياقات البيضاء، الاختلاس، النشل، ممارسة انتزاع المال أو الممتلكات عن طريق الخداع والاحتيال بعد كسب ثقة الضحية، السطو على المنازل، البغاء وممارسة سمسرة الفاحشة.
ثالثاً: الطقوسية أو الطقسية
الطقسي في مخطط كيرتون يقترح بترك وتجاهل أهداف النجاة الكيبرة، ولكنه يستمر بالتمسك بشراهه بالمعايير المؤسسية. فالطقسي يلعب اللعبة بأمن وحذر وبحذافيرها ولا يقدم على المخاطر. فالطريقة الطقسية كتكيف لعملية التركيز والضغط لى النجاح في المجتمع الأمريكي، إنما تكون بمثابة انسحاب جزئي – بمعنى هجر وترك هدف النجاح، ولكن استبقاء نموذج عمل الأشياء على نحو لائق، وباتباع كل التعليمات بحذافيرها. فبطرق متعددة، تعتبر الطقسية نوع من الإفراط في الامتثال. فهي باختصار طريقة تكيف للأفراد الذين يرغبون بالهروب الذاتي من المخاطر والاحباطات التي تبدو معهم متأصلة في المنافسة على الأهداف الرئيسية ويقومون بالتمسك بالروتين وبمعايير المؤسسات. فالبيروقراطي التافه الذي يصر على أنه يجب إتباع القواعد والأحكام بحذافيرها إنما هو مثال توضيحي ومضخم لهذا النوع من التكيف.
رابعاً: الانهزامية والانسحاب:
وهي تعني الرفض للأهداف والوسائل المجتمعية أو المؤسسية أي بمعنى انسحاب تام وكامل. فهي الهروب والانسحاب من الأشياء التي يقيمها المجتمع بشدة. فهؤلاء الأفراد أو الناس مغتربون حقيقيون. لا يشاركون المجتمع إطاره العام للقيم، ويمكن أن يعتبروا أعضاء في املجتمع (بالتميز عن بقية السكان) فقط في الصورة الخيالية أو القصصية "ففي هذه المجموعة يضع ميرتون بعض أنشطة التكيف لكل من الذهانيين، والتوحديين (المسترسل في التخيل هرباً من الواقع)، والمنبوذين والمشردين والمتسولين والكحوليين والمدنين على المخدرات". يحدث هذا الشكل، مع كل من يتكيف معه، بسبب أن الأفراد هنا يقيمون هدف النجاح، ولكنهم لا يستطيعون تحقيقه، أما لأنهم غير راغبين باستخدام الوسائل المشروعة غير أو أنهم فشلوا في تحقي النجاح حتى بعد استخدام الوسائل غير المشروعة.
فالانهزامية، إذن، حدثت بواسطة تكرارية الفشل، وهذا الفشل بدوره يسبب صراع نفسي حاد. ويحل هذا الصراع بواسطة منه أو الامتناع عن عناصر العاملين المكثفين وهما الأهداف والوسائل والهروب يكون كاملاً، والصراع منتهياً ويكون الفرد لا اجتماعي أو منعزلاً، ويشعر ميرتون أن هذا الشكل من التكيف أقل تكرارية وأثل حدوثاً من النماذج الأربعة السابقة.
خامساً: التمرد
وتحتوي على عملية أصلية في تحويل القيم. إنها محاولة للتعامل مع الأهداف والوسائل العامة والمسيطرة بواسطة إلغاؤها جميعاً. فبينما يرفضا المنسحب فقط (الوسائل والأهداف) ولا يضع أي بديل اجتماعي، وسياسي واقتصادي لها، بحيث أو الضغوطات والمعوقات الحالية منا لمفترض أو لا يكون لها وجود في البدائل. وفعل الثورة يمكن أن يكون مثالاً قاطعاً للتمرد. ولا يعطي ميرتون أهمية كبيرة لهذا النمط.
بالرغم من أن نظرية الانومي كان لها تأثير قوياً لى علم الاجتماع الانحرافي لعشرات من السنين بعد نشرها سنة 1938، إلا أنه يوجد عدد قليل، إن كان هناك من الدراسات التي تجري اليوم متأثرة بشدة في هذا الاتجاه. وهذا صحيح لعدة أسباب انتقاديه:
1. تحيز الطبقة المتوسطة:
تعاني نظرية الانومي من نفس تحيز الطبقة المتوسطة التي شوهت كل النظريات السابقة في الانحراف. فقد قامت بافتراض أن أفراد الطبقة السفلى والعامة يرتكبون أفاعلاً إجرامية ومنحرفة أكثر تكرارية من ما يرتكبه أفراد الطبقة الوسطى. فاليوم، معظم الملاحظون يعترفون أن جرائم العنف (جرائم الشارع) ترتكب عادة بواسطة الأفراد الذين عم في قاع التركيبة الطبقية – وليس الأفراد الذين في القيمة. ومع ذلك – فهنا تأتي المشكلة حيث توجد العديد من الأنشطة الإجرامية والمنحرفة التي يشترك فيها العديد من المتنفذين والأغنياء وأصحاب النفوذ والمكانة، والمتعلمين وأصحاب القوة في المجتمع. فبالرغم من أن الإحصائيات الرسمية للشرطة المتعلقة بمرتكبي الجرائم تبين أن الجريمة ظاهرة سائدة في الطبقة السفلى، إلا أنه من الواضح الآن أن الجرائم المحددة التي يرتكبها أفراد الطبقة الوسطى هي التي تكون بعيدة عن جذب انتباه رجال الشرطة من الجرائم التي يرتكبها أفراد الطبقة السفلى والعاملة.
2. لا علاقية الأنومي بمعظم أشكال الانحراف:
بالرغم من أن حالة عدم التكامل والانسجام بين الوسائل والأهداف هي صفة المجتمع الأمريكي المعاصر والتي تعمل بالضغط على أفراد محددين للاشتراك في أشكال محددة من الانحراف، إلا أن معظم السلوك المنحرف لن يكون نتاج الضغط الحاصل من عدم التكامل والانسجام بين الوسائل والأهداف. لذلك نظرية ميرتون ليست تفسيرية أو توضيحية للسلوك المنحرف على الإطلاق – ولكنها وصف لبعض النتائج المحتملة لنوع معين من الضغط الاجتماعي والاقتصادي. ولكن يبدو أن المخطط أو الرسم التوضيحي لحالة الأنومي لا علاقة له بمعظم أشكال السلوكيات المنحرفة. فالأنشطة مثل تعاطي المخدرات للتسلية دون الإدمان، الاعتداء بالضرب، جرائم القتل، القمار على مستوى بسيط، اللواط، الزنا، الاعتداء جنسيا على الأطفال، اعتناق مذاهب منحرفة... إلخ، هي غير موضحة من قبل وبواسطة مخطط الأنومي.
ولكن هل يمكن إرجاع الشاهد الكلاسيكي لمصدر المرض العقلي عند الرجال إلى معاناة الرغبة في النجاح؟ هل أسلوب وطابع الحياة البديلة والحركات المضادة للثقافة تبرز وتظهر في الواقع نتيجة للحاجة إلى الهروب من حالة التنافس والكفاح الشديدين حول الحفاظ على المكانة الاجتماعية؟ أو هل منفذيها يجدونها ببساطة طريقة حياة مريحة وقابلة للتطبيق؟ وهل البوهيميون في العشرينيات (المتشرد المترحل الذي يحيا حياة بوهيمية لا تقيم وزنا للأعراف والقواعد الاجتماعية) والجيل الرافض في الشكل والملبس  في الخمسينيات والوجوديون (الهبى والخنفوس) في الستينيات، ظهروا كنتيجة للاستجابة التكيفية لعملية الانفصال بين الأهداف والوسائل التي فرضت من قبل المجتمع الأمريكي؟
هل الكارثة أو الأزمة الاقتصادية وراء تعاطي الكحول والسلوك العدواني والهدام لكل الكحوليين (مدمن الكحول)؟ وهل المنحرف يتلاءم ويتطابق بشكل عام مع مخطط الوسائل والنهايات؟
كل هذه الأسئلة توضح وتركز على أن هناك مشكلات حادة مع كل أشكال الانحراف التي ادعى ميرتون أنها متلاءمة مع نموذج الأنومي – ماعدا حالة الإبداعية أو الاختراع – ويبدو من البديهة الواضحة أنه عندما يوضع تركيز شديد على الأهداف، واهتمام بسيط على كيفية الوصول إلى تلك الأهداف، فإن الكثير من الناس سوف يقومون باكتشاف وسائل غير متفق عليها وغير مشروعة للوصول إلى تلك الأهداف، بدلا من الالتجاء إلى الوسائل الشرعية والمتفق عليها والتي لا تصلح ولا تؤدي إلى الغرض المنشود.
3. هل الانحراف مخالفة المعايير أم عدم موافقة اجتماعية؟ فعلى شاكلة التوضيحات التي قدمت لمعظم الانحرافات السلوكية المختلفة، فإن المشكلة المتعلقة بتصنيفات السلوك كسلوك منحرف بواسطة نموذج الأنومي – في كل طرق التكيف – إنما هي سلوكيات غير منحرفة إطلاقا. وذلك بسبب، أنه إذا وضع قليلا من الضغط على كيفية وصول فرد ما إلى الأهداف في المجتمع، إذن لا يمكن نبذ هذا الفرد نتيجة لتوظيفه أو استخدامه الوسائل غير الشرعية. فمدى أحقية الفرد في اختيار الوسائل للحصول على هدف معين (على سبيل المثال الغش في الامتحان للحصول على درجة “A” في الفصل)، فإن عدم الموافقة تكون معتدلة، وبالتالي فهو يمثل أحد أشكال الانحرافات البسيطة، يعرف ميرتون الانحراف بأنه خرق للتوقعات المؤسسية. ولكنه في الواقع يناقش موقف تتواجد فيه القواعد الرسمية المعلنة (لا تغش في الامتحان). والتكوين النظامي (أي وضع نظام القواعد والعقوبات) التي انهارت على المستوى الفردي أو الخاص. فإذا كان الغش لا يجلب الرفض والعقوبة على رأس الغشاش، إذن هي لم تعد نموذجا للسلوك المنحرف، بغض النظر عما تحدده القواعد الرسمية.

نظرية الاختلاط التفاضلي
Diffrential Association
في سنة 1939، وفي الطبعة الثالثة لكتاب علم الإجرام – لعالم الاجتماع الأمريكي ادوين سذرلاند (1883 – 1950)، أعلن عن نظرية رئيسية في الانحراف والجريمة لأول مرة. وقد سميت بنظرية الاختلاط التفاضلي، فأصبحت أحد النظريات الأساسية في علم الإجرام. وترى هذه النظرية أن السلوك الإجرامي على نطاق، وامتداد أنواع متعددة هو انحراف وسلوك متعلم. وقد كان هذا الافتراض موجها ضد النظريات البيولوجية، التي تؤكد على أن الجريمة سببها انحطاطات جينية ووراثية وأيضية (مجموع العمليات المتصلة ببناء البروتوبلازما ودثورها وبخاصة التغيرات الكيميائية في الخلايا الحية، التي بها تؤمن الطاقة الضرورية للعمليات والنشاطات الحيوية والتي بها تمثل أعداد جديدة للتعويض عن المندثر منها)، وبنيوية (جسمية)، وضد النظرة التي ترى أن النشاطات الإجرامية تحدث بصورة حوادث مفاجئة من خلال اختراعات وإبداعات مستقلة – لا يمكن لأحد -، كما يرى سزرلاند، ببساطة أن يأتي عن طريق الأحلام بطرق ووسائل لكسر القانون. لابد أن يكون هذا السلوك انتقل من فرد لآخر من خلال عملية تعلم حقيقية.
1. وتعترض نظرية الاختلاط التفاضلي أيضا على ا لنظرة التي ترى أن المرض العقلي والشخصية المرضية وغير العادية سبب أساسي في ارتكاب السلوك الإجرامي. بل يناقش سذرلاند، ويرى أن الجريمة يتم تعلمها بطريق مباشر وفي إطار المعايير التقليدية، وليست مختلفة عن طريقة تعلم أعضاء المجتمع الأمريكي اللغة الإنجليزية أو تعلم استمال الفرشاة لتنظيف الأسنان.
2. الافتراض الثاني لنظرية الاختلاط التفاضلي هو أن استمرارية السلوك الإجرامي والمنحرف كذلك يجب أن يتعلم من خلال التفاعل وجها لوجه بين الأفراد ذوي العلاقة الحميمة والقوية. فالناس لا تقتنع في الاشتراك في سلوك إجرامي نتيجة لقراءتهم للكتب أو الصحف أو رؤية فيلم ما أو مشاهدة التلفزيون. فالمعارف والمهارات والعواطف والقيم والتقاليد والبواعث الإجرامية تنتقل من فرد لآخر كنتيجة لوسيلة العلاقات الشخصية المتبادلة التأثير – وليست غير الشخصية أي عديمة التأثير من شخص لآخر. وهناك عاملين رئيسيين يقومان بتكثيف هذه العملية وهما: الأولوية والعمق.
فالأولوية تعني أنه كلما تعرض الفرد في مراحل حياته الأولى إلى مواقف وقيم (يسميها سذرلاند تعريفات) تشجع وتحبذ ارتكاب الجرائم، كلما كان هذا الفرد أكثر تأثرا بهذا الاتجاه. أما العمق فيعني أنه كلما كانت العلاقة حميمة وقريبة مع الأصدقاء والأقارب والمعارف الشخصية الذين يقرون ارتكاب الجريمة، كلما أصبح الفرد أكثر ميلاد ونزوعا نحو كسر القانون.
إذن نظرية سذرلاند تناقش الآتي:
أن الناس الذين يقومون بمزاولة وارتكاب السلوك الإجرامي يختلطون تفاضليا من خلال الأفعال والأقوال مع الأفراد الذي يقرون مخالفة القوانين ويجب أن نلاحظ هنا أن هذه النظرية لا ترى أن الفرد يحتاج إلى الاختلاط مع مجرمين فعليين وحقيقيين لينتهي بنفسه إلى مخالفة وكسر القوانين – ولكن فقط، عندما يتعرض بشدة إلى تعريفات تشجع وتفضل الأفعال الإجرامية، أي تعريفات تميل إلى تفضيل السلوك الإجرامي عن غيره. والإنسان يمكن أن يتعرض إلى تعريفات مطيعة للقانون تكون منبعثة ومنبثقة من مجرمين، أو تعريفات منبعثة من أفراد مطيعين وممثلين للقانون (ولكن بالطبع وفي العادة هذه العملية تكون عكسية).
والخلاصة، هي أن نظرية الاختلاط التفاضلي ترى أن الفرد يصبح جانحا أو مجرما نتجية لرجحان كفة التعريفات التي تؤيد وتفضل مخالفة القوانين على كفة التعريفات المعارضة والرافضة لمخالفة القوانين. والمفتاح لهذه العملية هو النسبة والتناسب (التفاضل) بين التعريفات المؤيدة لمخالفة القوانين وبين التعريفات الرافضة والمعارضة، فهي تحدث (أي عملية قبول الفرد للسلوك الإجرامي) عندما تزداد التعريفات المؤيدة لخرق القوانين على التعريفات الرافضة، حينئذ يتحول الفرد إلى الجريمة.

النقد والتقويم
انتقدت نظرية الاختلاط التفاضلي على أنها غامضة ولا يمكن اختبارها. والمحاولات البعدية التي حاولت إعادة تعريف وصياغة التعريفات الإجرامية للنظرية لم تكن بحاجة في إنقاذها من عدم الدقة والغموض. فكيف يمكن للباحث أن يقيس على نحو دقيق جدا بالنسبة والتناسب للتعريفات المؤيدة والمعارضة لمخالفة القوانين؟ وأيضا كيف يمكن أن نقيس بدقة مفهوم (مؤيد) (ومعارض أو رافض)؟ هذه الأسئلة دعت أحد المدافعين والمخلصين لهذه النظرية (دونالد كريسي) أن يعترف بأن صياغة سذرلاند لعمليات وإجراءات نظرية الاختلاط التفاضلي لا توجد فيها الدقة الكافية لإثارة الاختبارات التجريبية الدقيقة جدا.
لقد وضحت العديد من البحوث العلمية وإثباتات القصص أن معظم الجرائم تكون في الواقع متعلمة عن طريق العلاقات الشخصية الوطيدة والحميمة. ولكن يبدو على الأقل أن الطموحات والتوقعات زائدة بافتراض أن كل السلوك الإجرامي متعلم، وكذلك بافتراض أن كل السلوك غير الإجرامي متعلم أيضا. فالعديد من الأفعال الإجرامية أو غير الإجرامية، تكون مبتكرة من جديد، مرة أخرى، بواسطة الأفراد في مواقف متشابهة. فعلى سبيل المثال المراهقون لا يحتاجون إلى تعلم كيفية ممارسة بعض الأفعال الجنسية (العادة السرية) من المراهقين الآخرين. فالعديد منهم يكتشف النشاط نتيجة لمحاولة اكتشاف اجسامهم. فكل الأفعال ليست متعلمة، وعلى أقل تقدير ليس بطريق مباشر. فالكثير منها، المنحرف وغير ذلك، ربما يكون مبتدعا ومخترعا في العزلة النسبية. فهناك الكثير من الاختراعات المستقلة (ليست من خلال التعلم) إبداعي بغير حدود، وفكرة عمل شيء ما، والفعل الحتمي له، بالتأكيد له أرضية ثقافية وتعلمية، ولكن ليس من الضروري أن يكون التعلم عن طريق مباشر وبالتفضيل. فالفرد أي كان يستطيع بنفسه أن يضع القطع مع بعضها. بمعنى آخر، أن الفرد يستطيع أن يحل الألغاز التي في ذهنه دون مساعدة أحد.
وفوق هذا وذاك، هناك العديد من النشاطات الإجرامية لا تتطابق مع نموذج نظرية الاختلاط التفاضلي مثل، تزوير الشيكات، الاختلاس، الاعتداء جنسيا على الأطفال، مخالفات السوق السوداء أثناء الحروب إلى جانب عدد معين من جرائم العاطفة (قتل الزوج أو الزوجة مع عشيقها)، كذلك الجرائم التي تحتوي على الإكراه النفسي مثل الدغر (هوس السرقة).
إضافة إلى ذلك، يجب التركيز على أن بعض نماذج الانحراف والجريمة ليست مقبولة وموافق عليها من قبل أغلبية الناس الذين يشتركون فيها (مثل مدمني المواد الكحولية، إدمان المخدرات، الأمراض العقلية، الاعتداء الجنسي على الأطفال) وبالتالي وكنتيجة لذلك، لا يمكن تعلمها في أي شكل من الأشكال التي اقترحها ادوين سذرلاند. وهذا يعني بواسطة تعرض الفرد وتعرفه على التعريفات المؤيدة للاشتراك في هذه النماذج السلوكية. صحيح أن الكثير من السلوك الإجرامي والمنحرف يتم عن طريق التعلم إلا أن الكثير منه غير ذلك (أي لا يتم بطريقة التعلم).
تكمن قيمة وأهمية نظرية الاختلاط التفاضلي باعتبارها نظرية جزئية ولكن كنظرية كاملة، فإنه من الواضح أنها طموحة جدا. وفضلا على أن تكون نظرية توضيحية لكل أنواع الجناح والانحراف والجرائم، يجب أن تعتبر نظرية الاختلاط التفاضلي، وكبديل لذلك كمفهوم يساعدنا على فهم العملية الخاصة لبعض مخالفي القانون الذين يقومون بفعلهم وكيف أن البعض الآخر لا يستطيع ذلك. فالتعلم، على سبيل المثال، ليس السبب وراء لماذا يقمن بعض النساء بممارسة البغاء، والبعض الآخر بممارسة الجنسية المثلية والشاذة. فعلى الأصح، عند تصير الفرد وتحوله إلى البغاء والجنسية المثلية، فإنه نموذجيا يشترك في عملية التعلم. ونتيجة لرؤيتنا المحدودة لهذه العملية فإن نظرية الاختلاف التفاضلي تقدم نظرة ثاقبة في ديناميكية الانحراف والسلوك الإجرامي.
إن فكرة الجريمة والانحراف والسلوك الجانح يمكن أن يتعلم عن طريق مباشر وواضح المعالم من جماعات أو دوائر اجتماعية معينة قد تم اكتشافها وتوضيحها من قبل مجموعة من الباحثين. وأحد امتدادات نظرية الاختلاط التفاضلي هو نموذج أو نظرية "الانتقال الثقافي" التي صممت ووضعت من قبل الأنثروبلوجي والترميلر (1958). يرى ميلر أنه على الأقل هناك نموذج واحد من الانحراف – العصابات الجانحة – هو نتيجة مباشرة لثقافة الطبقة السفلية.
يرى ميلر أن اسلوب وطابع حياة الطبقة السفلى تتميز بمجموعة من الاهتمامات البؤرية (الاتحاد بشكل مكثف) – في المناطق أو المواضيع التي تتطلب وتأمر بنشر واستمرار الانتباه والاشتراك والتفاعل العاطفي بدرجة كبيرة. وهذه الاهتمامات البؤرية (جزء من الثقافة) هي المشاكل، الخشونة، الذكاء والدهاء، الإثارة، القدر، والاستقلالية. وكل اهتمام من الاهتمامات السابقة يقوم بالضغط على الشاب من الطبقة السفلى للدخول في صراع مع القانون ومع الهيئة الممثلة والمنفذة للقانون. فعلى سبيل المثال، التشديد والتركيز على الخشونة يقود دائما إلى الرغبة والطموح في إبراز العضلات والرجولة من خلال المشاركة في المشاجرات والسلوك العدواني، والقتال الفعلي أثناء مواجهة الشرطة. فالرغبة في الإثارة والمتعة السريعة – وخلق المواقف الخطرة، والقمار، والقتال، وارتياد الحانات، والتناول الشديد للمواد الكحولية، تبدو جذابة لشباب الطبقة السفلى. ويرى ميلر أنه ببساطة، كون الفرد عضوا في الطبقة السفلى وعضوا فعالا ومشتركا في ثقافتها، فإنه آليا أو أوتوماتيكيا يخالف بعض المعايير القانونية. فالفرد متوقع منه (من قبل الآخرين) أن يقوم بكسر القوانين في مواقف متعددة (وينادي في نفس المواقف إلى احترام القوانين في الطبقة المتوسطة). ويرى ميلر أن ثقافة الطبقة السفلى "هي تقاليد متميزة عبر قرون قديمة وبكبرياء خاص بها"، وهذه التقاليد تشمل الخرق الروتيني والمتكرر للقوانين الجنائية. إلى جانب ذلك فقد بين ميلر أن المراهقين في الطبقة السفلية "يقعون في المشاكل نتيجة لأنهم يظلون أمناء للمعايير الثقافية التي تعلموها من والديهم".

النقد والتقويم
قام العديد من النقاد بوضع علامات الاستفهام والانتقادات على تحليل ميلر. فقد وجدوا أن الأخبار عن السلوك المنحرف من خلال استبيان التجريم النفسي لا يختلف كثيرا، وليس له دلالة احصائية معنوية بين كل الطبقات الاجتماعية. ويرى العديد من الملاحظين أن المراهقين في الطبقة السفلى أو العاملة ليسوا أكثر اشتراكا في الأفعال غير القانونية من أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى. وحتى إذا كان السلوك الإجرامي والجانح للمراهقين في الطبقة السفلى أكثر انتشارا وتكرارية منم تلك التي في الطبقة المتوسطة، إلا أن هذا مازال لا يشرح ولا يوضح لماذا هناك جزء بسيط من المراهقين في الطبقة السفلى أو العاملة يشتركون بمخالفات قانونية حادة وخطرة جدا. إن نظرية ميلر، باختصار، تبالغ في التوضيح فإذا قمنا بمتابعة وتطبيق ما قدمته من افتراضات فإننا سوف نتنبأ بأن كل المراهقين في الطبقة السفلى سوف يصبحون جانحين، وهذا بالتأكيد جزم خاطئ. وفوق ذلك كله، هناك من يرى، أن الاهتمامات البؤرية المفترضة والتي يدعي ميلر بأنها تميز ثقافة الطبقة السفلى تبدو أيضا كسمة وصفة وميزة لاتجاهات وقيم الطبقة المتوسطة. فالكثير من الملاحظين لا يجدون نظرية الانتقال الثقافي لميلر مقنعة تماما. أما في الجانب المعاكس، فإن ميلر يقوم بخدمة الحقل (حقل الانحراف والجريمة) من خلال التركيز على أهمية التعلم والطبقة الاجتماعية عند القيام بارتكاب السلوك الجانح والإجرامي المنحرف.
لقد نقحت وعدلت انظرية الاختلاط التفاضلي من قبل المنظرين المحدثين، وصنفت تحت الإطار النظري السلوكي أو التعلم الاجتماعي، وهذا الاتجاه (السلوكي والتعلم الاجتماعي) يحاول أو يوضح عملية تعلم الانحراف من خلال ما يسمى بالمؤثرات التكيفية أو الإشراطية. وهذا يعني، أن الناس تثاب وتكافئ أو تعزز بعض السلوكيات من خلال الآخرين، ويعاقبون عند اشتراكهم في سلوكيات مختلفة. وسوف يتعلم الناس السلوك المنحرف إلى المدى الذي يتيح الدعم والتعزيز للاشتراك فيه، من قبل الجماعات التي تقيم الانحراف. فهذه النسخة الحديثة من نظرية سذرلاند هي أكثر تعقيدا من النسخة الأصلية.
ولكن نظرية التعلم الاجتماعي، والنظرية السلوكية هوجمت بسبب تجاهلها (العوامل الاقتصادية، والتركيبية والاجتماعية وعدم قدرتها على توضيح لماذا تكافئ وتعزز بعض الأشياء عند بعض الناس، وتكون العكس عند البعض الآخر. وكذلك انتقدت هذه النظرية لعدم كونها توتضيحا حقيقيا للانحراف وإنما توتولوجية (قانون اللغو، أو تحصيل حاصل، أو جملة صحيحة ببساطة بواسطة تعريفها ولكن لا يمكن إثباتها بالتجربة).
فبينما التعلم خاصة لكل النظريات السوسيولوجية أو الاتجاهات نحو الانحراف، إلا أن النظرية السلوكية كنظرية كاملة ليست لديها الاتباع من علماء الاجتماع الذين يقومون بدراسة الانحراف.
النظريات المعاصرة في
تفسير الانحراف
وهي: 1- نظرية الوصم الاجتماعي
2- نظرية الصراع
أ- الماركسية ب- اتجاه الصراع غير الماركس
3- الوضعية والتحليل السببي

أولا: نظرية الوصم الاجتماعي
ظهرت في بداية الستينات كتابات مجموعة من الباحثين كتبت حول مواضع متعددة بلورت اتجاها جديدا في علم الاجتماع أطلق عليه نظرية الوصم أو نظرية التفاعل أو نظرية ردود الفعل الاجتماعية. وقد انبثقت هذه النظرية أساسا من كتابات كل من فرانك تاننباوم وادوين لمرت في الانحراف. ويعتبر فرانك تانناوم الجد الأكبر لنظرية الوصم نتيجة لقدم كتاباته وباعتباره مؤرخا وليس عالم اجتماع.
أما ادوين لمرت فهو أقرب إلى النظرية، ويعتبر الأب لنظرية الوصم الاجتماعي، باعتباره عالم اجتماع إلى جانب حداثة وتعقيد كتاباته في مجال تفسير السلوك المنحرف.
وقد أظهرت بدايات نظرية الوصم الاجتماعي سنة 1938 عندما نشر أستاذ التاريخ فرانك تاننباوم كتابه "الجريمة والمجتمع" حيث بين أن الأطفال في الأحياء الفقيرة والقديمة يشتركون في الأنشطة المؤذية والعابثة مثل: الملاكمة، والشجار والهروب من المدرسة ورمي الحجارة على النوافذ وكسرها. وتعتبر هذه الأفعال سلوك طبيعي من قبل الأطفال ولكنها تؤخذ على محمل الجد من قبل السلطات وتعتبر سلوكيات منحرفة وأفعال إجرامية. ومن أجل منع تلك الأفعال تقوم الشرطة بإلقاء القبض على الصبية ومعاقبتهم. وإذا استمر الصبية في أفعالهم فإنهم يرسلون إلى مؤسسة عقابية أو إصلاحية.
ولكن الحقيقة، كما يقول تاننباوم، أن العقوبة لا تمنع أو تردع الصبية دائما من ارتكاب الفعل مرة أخرى. بل تعمل عادة إلى زيادة حدة الفعل، وبالتالي تصدر أفعالا أكثر شدة وخطورة من قبل الأطفال. فالقبض على الأطفال وحجزهم في مدارس إصلاحية يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي اعتبار الحي أو المجتمع هذه المجموعة من الأطفال فئة منحرفة وجانحة ولا يمكن إصلاحها.
ونتيجة لهذه النظرة والمعاملة المجتمعية للأطفال كأحداث منحرفين – ونتيجة لاختلاطهم مع منحرفين أكبر سنا في المؤسسات الإصلاحية، يتصور ويرى الطفل المشاغب نفسه كطفل منحرف أو حدث جانح حقيقي.
ادوين لمرت:
بعد مرور 12 سنة على كتاب فرانك تاننباوم، نشر اديون لمرت كتابه المشهور "علم الأمراض الاجتماعية" 1951. بطريقة أكثر تعقيدا وغموضا وتوضيحا من طريقة فرانك تاننباوم.
فقد ميز ادوين لمرت بين نوعين من الانحراف وهما:
1- الانحراف الأولي:
وهو ارتكاب الفعل المنحرف ذاته بأي شكل من الأشكال. وقدر رأي لمرت أن الانحراف الأولي يرتكب في مواطن وأزمان مختلفة، أي هو متعدد الأصول. بمعنى آخر أن الانحراف الأولي يرتكب بواسطة مجموعة متعددة مختلفة من العوامل. إضافة إلى ذلك، فقد أكد لمرت أن السبب أو الأسباب الرئيسية لأي شكل من أشكال الانحراف ليس ذا أهمية خاصة، ولكن المهم هو ردةه الفعل الاجتماعية الصادرة من الآخرين تجاه هذا السلوك أو الفعل المنحرف.
2- الانحراف الثانوي:
ويحدث عندما يبدأ الفرد الذي أقدم على الانحراف الأولي بالتعامل مع المشاكل الناجمة عن ردود فعل الآخرين، تجاه الانحراف الأولي. فالمنحرف الثانوي (نتيجة لاعتراض الآخرين على فعله) هو الشخص الذي نظمت حياته وهويته حول حقائق الانحراف، والتكرارية هنا عامل مهم جدا، سواء بتكرار نفس السلوك المنحرف السابق أو إتيان فعل منحرف جديد.
ويرى لمرت أن ليس كل الانحرافات الأولية ينتج عنها عقوبة وشجب، فهناك بعض المجتمعات والدوائر الاجتماعية أكثر تسامحا من بعض المجتمعات الأخرى للسلوك المخالف للقواعد والمعايير. ولكن في حقيقة الأمر، وهو الأكثر حدوثا، عندما يعاقب الانحراف الأولى فإن الأفراد المشتركين فيه يوصمون ويعزلون اجتماعيا، وبالتالي فإنهم يرغمون على مصاحبة جماعات وشلل إجرامية موصومة اجتماعيا. فالعزل الاجتماعي هنا يعمل كقوة دافعة لهؤلاء الأفراد للانضمام والولاء لهذه الجماعات الموصومة والمعزولة اجتماعيا، والامتثال والخضوع لارتكاب السلوك المنحرف.
ويرى لمرت أن السلوك المنحرف بوجه عام هو نتيجة صراع ثقافي تبرز آثاره في التنظيم الاجتماعي القائم في مجتمع من المجتمعات. وقد بين أن الانحراف يقع في ثلاثة مستويات رئيسية وهي:
1- الانحراف على المستوى الفردي:
وهو الذي يمكن إرجاعه إلى مجموعة من العوامل والضغوط النفسية الداخلية والتي لها تأثير مبشار على الفرد ذاته. ومن أمثلتها، الجنسية المثلية.
2- الانحراف على المستوى الظرفي:
وهو يظهر ويحدث كنتيجة للتعرض لبعض الضغوط البيئية أو للعوامل والمتغيرات الظرفية التي لا تسمح ولا تتيح للفرد أي فرصة للتفكير والتريث والاختيار.
3- الانحراف الاجتماعي:
وهو الذي يحدث على مستوى التنظيم الاجتماعي ويتكون من خلال تنظيم قيمي (تشرب الفرد للقيم المنحرفة) أو تنظيم ثقافي بحيث يصبح السلوك المنحرف طريقة وأسلوب حياة للعيش. مثل (الانتماء إلى التنظيمات الإجرامية المحترفة).
إلى جانب تلك المستويات الثلاثة السابقة، رأى لمرت أن عملية الانحراف تكتمل جميع جوانبها من خلال عملية تصير انحرافي واجتماعي يدخل ويمر فيها الفرد وهي عبارة عن ثمانية مراحل أساسية:
1. الانحراف الأولي: وهي المرحلة التي يرتكب فيها الفرد السلوك المنحرف كمحاولة وعملية لاختبار ردود فعل المجتمع.
2. مرحلة قيام وظهور ردود الفعل الاجتماعية من المجتمع تجاه السلوك أو الانحراف الأولي. ويظهر بشكل أو صور من العقوبات الاجتماعية المحددة.
3. وهي المرحلة التي يتكرر فيها الانحراف الأولى بمستوى تزداد فيه قوته ونسبته وكميته.
4. المرحلة الرابعة: وهي ا لمرحلة التي تظهر ردود فعل اجتماعية سلبية تجاه السلوك المتكرر. بحيث تكون على مستوى أكثر عنفا وقسوة، ويبرز الرفض الاجتماعي بشتى صوره تجاه السلوك المنحرف.
5. وهي المرحلة التي تزداد فيها تكرارية السلوك المنحرف ويواكبه شعور، من قبل الفاعل، بالرفض والعداء والمقاومة لمصدر العقوبة والرفض الاجتماعي.
6. وهي المرحلة التي تحدث فيها أهم الخطوات، حيث يبدأ المجتمع ويقوم باتخاذ ردود فعل رسمية تأخذ شكل وصم المنحرف لوصمه الانحراف والإجرام.
7. وهي مرحلة تتعلق بالمنحرف نفسه وذاته، حيث يقوم الفرد المنحرف بزيادة سلوكه الانحرافي كانتقام ذاتي ومحاولة للرد على موقف المجتمع من سلوكه ومحاولة لمواجهة وصمة المجتمع.
8. وهي المرحلة التي يتقبل الفرد المنحرف لدوره ومركزه الاجتماعي الجديد الذي أعطى له من قبل المجتمع (كمجرم أو منحرف). ويحاول الفرد في هذه المرحلة الانسجام والتوافق مع هذه الشخصية الجديدة والعيش في المجتمع كشخص منبوذ اجتماعيا.
وتعتمد نظرية الوصم الاجتماعي على مجموعة من النقاط الأساسية التي هي في صلب نقاشها وتفسيرها للسلوك المنحرف بشكل عام. ويمكن وضع هذه النقاط على شكل فرضيات رئيسية وهي كالآتي:
أولا: تعريفات السلوك بأنه منحرف أو مقبول (سوي) هي ذاتية ونسبية:
حيث لا ينظر إلى السلوكيات المتعددة والمختلفة على أنها منحرفة في كل مكان. فهناك تفاوت واختلاف من وقت لآخر، ومن مكان لآخر حول ما يعتبر سلوكا منحرفا. وحتى في المجتمع الواحد توجد مجموعات من الأفراد تشجب وتستنكر السلوك الذي يتسامح معه أو يشجعه الآخرون. فعلى سبيل المثال، الاتصال الجنسي بين المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، إنما هو فعل طبيعي عند شريحة كبيرة من أفراد تلك المجتمعات، ولكنه محرم ويقاوم على مرتكبه الحد في الدول الإسلامية (الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية). كذلك تعاطي المواد الكحولية مباح ومشروع وقانوني في كثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية، ومتعاطيه إنسان طبيعي وسوي، أما في الكويت والسعودية على سبيل المثال، فمتعاطي المواد الكحولية شخص منحرف ويعاقبه القانون.
ثانيا: ردود الفعل السلبية تجاه الأفعال التي تخرق القواعد ليست آلية أو أوتوماتيكية:
بمعنى آخر أو بكلمات أخرى، نحن لا نستطيع أن نفترض أنه بسبب أن فردا ما خالف وخرق القواعد والمعايير والقوانين علنا، سوف ينتج فعله عقوبة تابعة للفعل والفاعل من قبل الملاحظين. فما يعتبر انحرافا على نطاق واسع، من الممكن أيضا أن يقبل أو يتسامح معه من قبل جيوب من الأفراد متناثرة حول أي مجتمع كبير ومعقد. ويدعي علماء نظرية الوصم الاجتماعي، أنه من الخطأ افتراض وجود إجماع معياري أو اتفاق عالمي، ذو نغمة كلية موحدة، على السلوك الذي يجب أن يتسامح معه، وعلى السلوك الذي يجب أن يعاقب. وحتى عندما يظهر الملاحظون عدم الموافقة على السلوك المخالف للقواعد، والذي هو مجمل السؤال والدراسة، إلا أنهم لا يشجبون أو يعاقبون دائما الأفراد المشتركين بالفعل وردود الفعل المجتمعية هي احتمالية، وبالتالي لا يمكن أن نفترضها مسبقا.
ثالثا: أن مفتاح عملية التحقيق والبحث في الانحراف هو وصم السلوك بالانحراف وصم الأفراد بالمنحرفين بواسطة المشاهد أو المشاهدين:
ببساطة، المشاهد أو المشاهدون هم عبارة عن فرد أو مجموعة من الأفراد الذين يلاحظون ويقيمون الفعل أو الأفراد المشتركين بالفعل. فالمشاهد من الممكن أن يكون صديق – شرطة – مدرسون – الطبيب العقلي – المارة أو حتى الفاعل نفسه. فمن الممكن كما يقول "هاورد بيكر"، أن يكون الإنسان ملاحظ ومقيم لسلوكه الذاتي. والدور الذي يقوم به العديد من المشاهدين في التأثير على سلوك الأفراد الذين عوقبوا واستنكروا أو وصموا، هو موضوع البحث الرئيسي لعلماء لنظرية الوصم الاجتماعي. وهذا الدور الذي يقوم به المشاهدون من الأهمية بمكان، بحيث لا ينظر ولا يهتم العلماء إلى المتهم ومدى صحة وبطلان التهمة الموجهة إليه. وبالتالي فإن المتهم بالخطأ والموصوم بالانحراف، على حسب مقاييس نظرية الوصم، يشترك في صفات وخصائص مهمة مع الأفراد الذين اشتركوا في السلوك محل البحث.
رابعا: الوصمة الموضوعية على الأفراد بأنهم منحرفين، وشخصيات غير مرغوبة وغير مطلوبة اجتماعيا أو أخلاقيا، تحدث دائما نتائج خطيرة وتؤدي إلى المزيد من الانحرافات.
هذا لا يعني أن الاستنكار والشجب ينتج انحرافات أخرى من قبل الموصوم أو المستنكر. حيث يقول هاورد بيكر " من الواضح أنه عندما يمسك أي فرد أثناء قيامه وارتكابه فعلا منحرفا، ويوصم بالانحراف فإنه لا يتجه حتميا نحو انحرافات أخرى أكثر شمولية، ولكن كثافة الانحراف تتأثر بمجموعة من العوامل. فعلى سبيل المثال، لو أنه في بداية القبض على الفاعل وإتمام عملية الوصم، أخذت كل الاحتياطات اللازمة لمنع الفرد من إتيان الأفعال المنحرفة وإعادته إلى الحياة التقليدية والمحافظة – وتم هذا الاختيار – فإن الفرد (هي أو هو) سوف يرحب به من قبل المجتمع التقليدي أو المحافظ. وعلى العكس من ذلك، إذا قام الفرد الموصوم بعمل تحركات خاطئة فإنه سواء كان رجلا أو امرأة سوف يرفض من المجتمع ويعود إلى دائرة الزيادة والإفراط في الانحراف".
ووجود جماعة منحرفة ومنظمة هي أيضا عامل آخر يؤثر في تصاعد وتضخيم عملية الانحراف. فالعضوية والانتماء إلى مثل هذه الجماعات يعزز الهوية المنحرفة. بمعنى آخر، إذا كان فرد ما قد عوقب نتيجة لاشتراكه في الأفعال السيئة، هل سوف يستمر أو يمتنع عن هذه السلوكيات نتيجة لتلك العقوبات؟ إنما هو سؤال تجريبي، أي قابل للبحث معتمدا على مجموعة من العوامل والمتغيرات.
خامسا: بمجرد تطبيق وصمة الانحراف فإنه نموذجيا من الصعب جدا مسح أو التخلص من هذه الوصمة.
ففي اللحظة التي يوصم بها الفرد بالانحراف، وخاصة في المجتمعات الصغيرة والمتجانسة والتقليدية، فإن العملية (الوصمة) لا يمكن تحويلها أو تعديلها، فالدور المخصص للمنحرف نادرا ما يسمح أو يفسح مجالا له أولها للعودة إلى اعتباره كفرد طبيعي ومحافظ وممتثل للقانون. فالفرد الموصوم يقاد إلى وضعه المنحرف بواسطة طقوس وعمليات حاسمة، ولكنه إذا تقاعد من هذا الوضع فإنه لا يواجه إلا بملاحظات أو كلمات نادرة جدا من العامة.
ونتيجة لذلك فإن المنحرف يعود عادة إلى منزله بدون الرخصة أو التصريح المناسب للعودة إلى الحياة الطبيعية في المجتمع. حيث لم يحدث شيء لإزالة وإنهاء الوصمة التي فرضها المجتمع عليه. وبالتالي فإنه ليس من المدهش والمستغرب أن الناس في المجتمع يميلون إلى الترحيب بالمنحرف العائد بشيء من عدم الثقة والحذر نتيجة لعدم تأكدهم من شخصيته. أي من هو هذا الفرد؟
وخلاصة، يمكن القول أن وصمات الانحراف لزجة ولاصقة حيث ينزع الناس إلى تفسير كل السلوكيات، بغض النظر عن ما إذا كانت مرتبطة بالانحراف أم لا، من خلال وصمة الانحراف. فالعامة يترددون دائما في إعادة تصنيف المنحرف السابق إلى فرد ممتثل للقواعد والمعايير. فهم يرون الذنوب السابقة مستمرة في الحاضر والمستقبل.
سادسا: التطبيق الفعلي لوصمة الانحراف على فرد محدد مخالف للقواعد لا يتم بطريقة عشوائية ولكنه يتأثر بالعديد من الاحتمالات.
بمعنى آخر، نجد أن هناك فردا ما (رجل أو امرأة) لم يعاقب ولم يشجب، نتيجة لمخالفته للمعايير. فين حين أن معظم [وليس من الضروري أن يكون كل] الأفراد الذين ختموا بوصمة الانحراف كسروا القواعد، ودائما مخالفوا القواعد يتملصون ويهربون من الضبط والعقوبة. إذن، ماذا يميز المعاقبون عن غير المعاقبين من مخالفي القواعد؟ يركز علماء الوصمة الاجتماعية على الدور الذي تلعبه الاحتمالات أو العوامل التي تبدو غير مرتبطة أو ليس لها علاقة بتنفيذ السلوك نفسه. فعلى سبيل المثال يقول هاورد بيكر في بعض المجتمعات، زنا الأقارب (بنت العم) من الممكن التسامح معه إذا لم يكن هناك اتهام من العامة ولم يظهر للعيان. ولكن إذا اتضح السلوك وظهر الاتهام فإنه يجلب الإهانة والوصمة للفاعل وفي بعض الأحيان يؤدي إلى الانتحار.
هناك ثلاثة احتمالات مهمة تؤخذ في الاعتبار عند وضع الوصمة:
1. مركز وقوة (نفوذ) المنحرف.
2. مركز وقوة (نفوذ) الضحية إن وجدت.
3. مركز وقوة (نفوذ) واضع الوصمة على المنحرف.
فكلما ارتفعت مكانة وقوة المنحرف، كلما انخفضت مكانة وقوة الضحية، إلى جانب انخفاض مكانة وقوة الواصم. وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة احتمالية تجنب أو مقاومة الوصمة السلبية. وكلما انخفضت مكانة وقوة المنحرف، كلما زادت مكانة وقوة الضحية إلى جانب ارتفاع مكانة وقوة واضع الوصمة. وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة احتمالية تعرض المنحرف للوصمة السلبية.
سابعا: الوصمة الذاتية، كما هي في عملية الوصمة من قبل الآخرين المهيمنين وذوي النفوذ، لها نتائج عنيفية وقوية وتؤدي إلى المزيد من الانحرافات. في حين أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يكتشف سلوك لشخص ما قد خرق القواعد، إلا أن الفرد المرتكب للفعل ذاته، يمكن وفي أحيان كثيرة أن يلعب دور الواصم. فهو، ربما يصنف نفسه على أنه منحرف، وبالتالي يبدأ بمعاقبة نفسه بطريقة أو بأخرى كنتيجة لذلك السلوك. وتعتبر هذه الصفة من الصفات التي تتمثل في الأفراد الذي يعتدون جنسيا على الأطفال.
فالوصم الذاتي، مثل الوصمة من قبل الآخرين. ربما لا يصف الفرد نفسه بالانحراف، أو كمخالف للقواعد، وحتى بعد تكرارية الفعل الذي من الممكن أن يطلق عليه الآخرين انحرافا. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة واحدة، أن المحتال الذي يمارس الجنسية المثالية في أغلب الأحيان، يستطيع أن يتجنب الهوية المنحرفة والشاذة، وأن يحافظ على الهوية الطبيعية والسوية للتصور الذاتي.

النقد
1- وجه العديد من العلماء الوضعيين التقليديين النقد إلى نظرية الوصم أو التفاعلية على أنها ليست نظرية على الإطلاق. فهي لا توضح سبب أو علم أسباب Etiology الأمراض التي تسبب وتنتج الأفعال المنحرفة مثل الاغتصاب – القتل المتعمد – الشذوذ الجنسي (الجنسية المثلية) – السرقة بالسلاح والاعتداء الجنسي على الأطفال. حيث اهتمت هذه النظرية فقط بردود الفعل تجاه هذه الأفعال، دون الاهتمام بعملية حدوثها في الدرجة الأولى. ويضيف العلماء الوضعيون بقولهم أنه حول هذا الموضوع (أو النقد) فقد التزم العلماء نظرية الوصم الصمت، وظلت النظرية عديمة الفائدة.
2- لا تخلق الوصمة السلوك الأولي:
لا تستطيع نظرية الوصم أن تفسر لماذا ارتكب السلوك في المحل الأول. إذن هذا الاتجاه غير مستوفي الشروط الأساسية ومتطلبات أي نظرية توضيحية.
في الواقع، يوافق علماء نظرية الوصم على أن اتجاههم لا يتعامل مع السؤال المتعلق بالسبب أو علم سببية ومصدر السلوك المنحرف. ولكنهم يقولون أن هذا الاتجاه لم يقصد به أن يكون اتجاها توضيحيا للانحراف الأولي أو لماذا يشترك الناس في ذات الأفعال المنحرفة. والرواد والدعاة الأصليون لهذه النظرية لم يطرحوا إجابات وحلول للسؤال المتعلق بسببية السلوك. ويوافق علماء نظرية الوصم على أن هذا الاتجاه يجب أن لا ينظر إليه على أنه نظرية توضيحية بالمعنى المتشدد أو المطلق (حرفيا). ولكن يمكن أن يكون هذا الاتجاه كموجة للملاحظ لمعرفة العمليات المختلفة والعوامل المتعلقة بالانحراف.
3- أما النقد الآخر الدائم التوجيه إلى هذه النظرية هو أن فعل الوصم (عملية الوصم) لا ينتج حتما تكثيف تعهد الفاعل (الموصوم) بمزاولة الانحراف، والسلوك المنحرف وارتباطه بالهوية المنحرفة.
ويرى الناقدون، أن العقاب عادة يكون ذو فاعلية: فهو (أي العقاب) يحدث ابتعاد وترك المخطئين لسوك خرق القواعد، ويجبرهم إلى العودة إلى التقاليد والامتثال للقوانين. إضافة إلى ذلك، يؤكد الناقدون على أنه من المحتمل والممكن أن يكون لدينا نماذج من السلوك المنحرف قبل أو بغياب الوصمة. فمن الممكن أن يتطور لدينا منحرف محترف دون أن يكون مصابا بالوصمة الاجتماعية مطلقا. فربما هناك العديد، من الأفراد، الذين يشتركون بالسلوك المنحرف وباستمرارية ولم يقبض عليهم أو لم يوصموا أبدا، ومع ذلك فإنهم يستمرون بسلوكهم الذي هو محل التساؤل.
يتفق علماء الوصم مع هذا النقد أيضا. ويقولون أن اتجاه الوصم لم يجزم أو يؤكد على أن الانحراف المستقبلي سوف يخرج حتما من أثر الوصمة. ولا يجزمون بأن الوصمة ضرورية لحدوث الانحراف واستمراره. فكما وضح في السابق، فقد بين ادوين لمرت أن العديد من الممارسات [الراديكالية – وتعدد الزوجات] تم قمعها، ولم تثار، بواسطة الضبط الاجتماعي الفعال.
وركز هاورد بيكر أيضا، على أن متابعة طريق الانحراف في الواقع ممكن أن تكون سهلة وميسرة بغياب الضبط الاجتماعي. فشجب المشتركون بالفعل المنحرف، ربما ينتج عدم الاستمرار في النشاط ذاته. فعلى سبيل المثال، يوضح بيكر أن مدمن الماريوانا، يجب أن يتعلم معارضة القوة الشديدة من الضبط الاجتماعي للاستمرار في استخدام هذا المخدر. فعندما يعاقب غير المستخدمون أو يطبقوا العقوبات على المستخدم، فإن الأخير (متعاطي الماريوانا) ربما يقرر ببساطة ترك التدخين. فهذه العقوبات لديها عادة، تأثير التنغيم على النشاط بأنه مكروه أو غير مستحب أو غير أخلاقي ويكون هناك ضغط هائل على متعاطي الماريوانا ليتحولوا إلى غير متعاطين. ويستطيع المستخدم أن يستمر فقط إذا هو أو هي استطاع أن يحول هذه العقوبات بحيث تصبح عديمة الفائدة إذن بالنسبة لعلماء اتجاه الوصم فإن الضبط الاجتماعي ربما له وظيفة مهمة في منع السلوكيات المنحرفة.
4- هناك نقدا آخر يساق عادة من قبل العلماء الراديكاليين أو الماركسيين بأن نظرية الوصم، بطريقة غير مباشرة تساعد في اضطهاد الجماعات عديمة القوة، وتؤزر وتعزز في نفس الوقت حكم القوي. ونتيجة لذلك، يساهم هذا الاتجاه في الاضطهاد، والاستغلال، والامبريالية، والعنصرية والتفرقة الجنسية المتميزة للرجل (Sexism). ويرى هؤلاء النقاد، أن تقاليد اتجاه الوصم تركز على السلوك المشجوب والموصوم، وعلى الأفراد المجانين، والمرأة الفاسقة، والمنحرف الجنسي (nuts, sluts, perverts)، وهذا يعني أن السلوك غير الأخلاقي (المنحرف) المختلف والمفاجئ للمنحرفين يستأثر بالخيال التقليدي (العام) ويغضب العامة والناس العاديين. ونتيجة لهذا فإن علماء نظرية الوصم يتجاهلون بالفعل، الخطر والمدمر من الأفراد ومن نماذج السلوك غير الأخلاقي وغير القانوني، والأفعال الهدامة للأفراد والجماعات والمؤسسات الاجتماعية القوية وذات النفوذ في المجتمع.
وكتصنيف لنظرية الوصم كما كانت تمارس في الواقع فإن هذا الانتقاد السابق يكون شرعيا. فمعظم علماء الاجتماع الذين ينتمون إلى مدرسة الوصم لم يبحثوا في الأفعال والسلوكيات المدمرة لذوي القوة والنفوذ يف المجتمع. فنماذج السلوك التي يدرسها الماركسيون والراديكاليون – هي نفس النماذج التي يتجاهلها علماء الوصم – "الاضطهاد، الاستغلال، العنصرية، التفرقة الجنسية المتحيزة، الإمبريالية ...الخ"، بالتأكيد تؤدي إلى دمار كبير في الحياة الإنسانية، أكثر من عمل معظم (أو أي) الأفعال العلنية المنحرفة. إنها لمن سخرية القدر أن هذه الأفعال التي تقع تحت مظلة الراديكاليين والماركسيين، لا تعتبر بوجه عام، ومن قبل العامة سلوك منحرف. البعض، بلا شك، يشعر بأن اتجاه نظرية الوصم يجب أن لا يؤخذ بجدية عندما يقال لنا بأنه لا نستطيع أن نسمي هذه الأفعال انحرافات. فالانحراف ليس مرتكزا على الاضطهاد والاستغلال، وإن كان يتداخل معهما في بعض الطرق المهمة. فالاضطهاد والاستغلال هما ميزتان أساسيتان لبعض نماذج السلوك، كما هو الحال في نوعية الانحراف الذي يفقد تماما (أي غير موجود) في معظم السلوك الاضطهادي والاستغلالي. بعبارة أخرى، فهم يختلفون ومستقلون عن بعضهم البعض، وحتى نربطهم بحكم قضائي يعني أن نشترك بلعبة كلمات ليس لها معنى.
ومع ذلك، فإن الماركسيين والراديكاليين على حق في نقدهم والذي يرى أن علماء نظرية الوصم، تاريخيا لم يقوموا بدراسة الأفعال التقليدية والمدمرة لطبقة الصفوة والتي يوحي إليها ضمنا في اتجاههم ويدعو إلى دراستها. وعلى ضوء هذه النظرة، فإنه يمكن القول بأن النظرية نفسها ليست المدانة ولكن علماؤها هم المذنبين بالنسبة للتهم الموجهة إليهم.
نظرية الصراع
بالرغم من أن تاريخها يرجع إلى القرن التاسع عشر في كتابات كارل ماركس (1818-1883) إلا أن ما يسمى الآن بنظرية الصراع قد نشأت حديثا كاتجاه رئيسي نسبيا في دراسة الانحراف والجريمة ويسمى أيضا بعلم الإجرام الراديكالي، أو علم الإجرام الجديد أو حتى علم الإجرام النقدي.
تحتوي نظرية الصراع على اتجاهين رئيسيين وهما:
1- الماركسية 2- اتجاه الصراع غير الماركسي
ويتفق هذين الاتجاهين على بعض المواضيع منها:
الموضوع الرئيسي لكل علماء الصراع هو نشأة وتطبيق المعايير والقواعد والقوانين كيف تمرر أو تقر القوانين؟ من المستفيد من إقرارها؟ أي القوانين تطبق، وأي القوانين تقر ولكن لا يتم تطبيقا أبدا، ولماذا؟ ولماذا تعتبر بعض النشاطات انحرافا، بينما يعتبر البعض الآخر سوي أو تقليدي من قبل أعضاء مجتمع ما؟ والإجابة المطروحة من قبل اتجاه الصراع هي أن القوانين والقواعد والمعايير انبثقت من الصراع حول القوة من خلال مصالح الجماعات، والأحزاب، والطبقات الاجتماعية في المجتمع. والجماعة أو الجماعات الأقوى في المجتمع هي التي تكون ناجحة في عملية قبول المجتمع لما هو صحيح أو خطأ، أو تحويلها إلى قوانين جزائية، وبالمثل فإن تطبيق وتنفيذ القوانين، يمثل تطبيق القوة ضد عديمي القوة بواسطة الأقوياء أو أصحاب القوة.
ونتيجة لعدم المساواة الجسيمة في القوة المتواجدة في المجتمعات عامة، وفي المجتمعات الرأسمالية خاصة، فإن جماعات قليلة ومحدودة هي التي تستطيع أن تمثل نفسها في صياغة القوانين فالقانون يحد بواسطة تلك المجموعة الصغيرة التي تسيطر على الإجراءات والعمليات السياسية. فعلى الرغم من أن القوانين يفترض منها أن تحمي كل المواطنين، إلا أنها تبدأ كأدوات للطبقة المسيطرة ونهايات للمحافظة على سيطرة تلك الطبقات. فالقانون يخدم القوى على الضعيف، ويعمل على تدعيم حرب القوى ضد الضعيف.
بعبارة أخرى فإن منظري الصراع يرفضون علانية النظرتين السائدتين واللتين تقولان:
1. أن القوانين صممت، وصيغت لحماية كل أفراد المجتمع بالتساوي.
2. ما يسمى بنظرية الإجماع، والتي ترى أن القانون هو انعكاس للوعي أو العقل الجمعي في المجتمع وأن القوانين تتركب من المقياس للتفكير الاجتماعي والمعياري للمجتمع.
وعوضا عن ذلك فإن منظري الصراع يرون أن اتجاهات الشعب والجماهير حول ما يمكن اعتباره سلوك تقليدي أو منحرف، وممتثل للقانون أو مجرم، يختلف بشدة من جماعة لأخرى في المجتمع الكبير والمعقد. وحتى إن كان هناك اتفاق عام أو إجماع على موضوع محدد ومدى اعتبار أي الأفعال ضد القانون، فإن علماء الصراع يسألون عن كيف ولماذا تحقق ذلك؟ باختصار، ـإنها وجهات النظر للجماعات الأقوى اتي تفوز وتنتصر في الصراع من أجل السيطرة الاجتماعية والقانونية. فليس هناك إجماع حول وجهات نظر الأغلبية، إنما فقط وجهات النظر المملوكة من قبل جماعات اجتماعية مختلفة. ووجهات النظر التي يتمسك بها الأقوى من هذه الجماعات هي التي تصبح قانونا. علاوة على ذلك، فإن القوانين لا تحمي حقوق الأكثرية ولكن مصلحة الأقلية. ويمكن تقسيم علماء الصراع في حقل علم الإجرام ودراسة السلوك المنحرف إلى أولئك الذي يمكن اعتبارهم ماركسيين علنيين (كويني – جامبلس – وتايلور)، وأولئك الذين ليسوا كذلك (أي ليسوا علنيين) مثل (فولد – تروك – وجسفيلد).

نظرية الصراع (الماركسية)
Conflict theory: Marxism
يرى الماركسيون المحدثون أن الحالات البنائية للمجتمع الرأسمالي هي التي تسبب الجريمة والانحراف والجناح. وبسبب أن المجتمع الرأسمالي يعتمد على السعي وراء الربح، فإن الجرائم المالية مشجعة ومقبولة. وبسبب أنه في مصلحة الصفوة الرأسمالية الاشتراك في النشاطات التجارية غير الأخلاقية وغير القانونية، بدون تدخل أو اضطراب يذكر، فإن انتباه علماء الإجراء البرجوازيين سوف يركز بعيدا عن تلك الجرائم وبعيدا عن الاضطهاد والاستغلال للفقراء ويوجه إلى جرائم الشارع التي هي نسبيا مؤذية ويرتكبها الفقراء.
وبسبب أنها مفيدة لجعل الشعب مطيع أو سهل الانقياد ومحايد سياسيا، فإن الشباب اليافعين من السود (في أمريكا) سوف يعتقلون ويسجنون حتى يمكن إبقائهم بعيدا عن الشارع العام وبذلك يكونوا قادرين على فعل أذى قليل جدا في المجتمع، أو يدمنوا (أي يجبروا على الإدمان) الهيروين وبالتالي يكونوا عقيمين اجتماعيا ومخدرين.
يرى العلماء الماركسيون أن الشرطة وصانعوا القوانين، والمحاكم، والسجون ما هم إلا مندوبين للطبقة الحاكمة فهم يمثلون ويحمون مصالحهم الاقتصادية، ويقومون بالتصرف نيابة عنهم. فممثلي الضبط الاجتماعي، باختصار، يمثلون ذراعا ويدا طويلة للطبقة الحاكمة. سوأي تهديد للبقاء أو المحافظة على النظام الرأسمالي ككل، ومصلحة الطبقة الرأسمالية خاصة، فإنه (التهديد) سوف يجرم أو يعلن عنه. ويوصم بالانحراف حتى يمكن التقليل من خطرها.
باختصار، إن تطور القانون الجنائي، وتطبيقه، واختراق أو مخالفة القوانين الجنائية، وحتى الاهتمام الموجه من قبل الشعب، والخبراء لهذه المخالفات هي كلها أساسا، كنتيجة حتمية للرغبة الشديدة والجشعة للربح والفائدة من قبل الصفوة في المجتمع الرأسمالي. فالرأسمالية هي نظام ممزق ومليء بالتناقضات. والانحراف والجريمة هي موروثات هذا التناقض. وعندما تمحى أو تنتهي الرأسمالية وتوضع الاشتراكية، فلن تحتاج الدولة إلى إقرار وسن قوانين اضطهادية وغير عادلة، ولا يحتاج الشعب إلى ارتكاب الجرائم. ففي هذه الحالة لن يجد الناس أن لهم مصلحة في اضطهاد واستغلال أحدهم الآخر، وسوف يعيروا الاهتمام للصالح العام، ويعيشوا في انسجام وتوافق. تحت ظل الاشتراكية، وسوف تبتر الجريمة والانحراف جذريا، إن لم تنتهي مباشرة.
النقد الموجه إلى علماء الإجرام الماركسيين
Marxist Criminology: Criticisms
إن كتابات علماء الإجرام الماركسيين وغيرهم من منظري الانحراف ذوي القناعة الراديكالية وجهت لها العديد من الانتقادات بواسطة العديد من الملاحظين ومن عدة محاور. ربما من أهم الانتقادات الرئيسية هو أن الماركسيين تبنوا الاتجاه الأحادي، وهو النظرة الضيقة التي ترى أن الرأسمالية هي السبب وراء كل الجرائم. فهؤلاء الناقدون يجدون، على سبيل المثال، أن إصرار وتأكيد الماركسيين على أن جرائم العنف، مثل الاغتصاب هي نتيجة طبيعية للرأسمالية، إنما هو مناف للعقل ولا يتوافق مع الحقائق. فالجريمة والانحراف والمشاكل الاجتماعية بما فيها الاضطهاد والاستغلال، متواجدة بتاريخها قبل ظهور الرأسمالية، وسوف تظل متواجدة لفترة طويلة جدا حتى بعد نهاية وزوال الرأسمالية.
أخطأ علماء الإجرام الماركسيون بنظرتهم السطحية التي ترى أن الجريمة سوف تنتهي وتزول بحلول الاشتراكية، ونادوا بالتجنب المقصود لمواجهة الجريمة والانحراف في المجتمعات الاشتراكية والشيوعية. وحصر التركيز على الجريمة في الدول الرأسمالية وتجاهل حدوثها في الدول المعتمدة على مبادئ الماركسية، وهذه الدعوة إنما هي محاولة لجعل علماء الاجتماع يتنازلوا عن مسؤوليتهم الأساسية لدراسة الانحراف والجريمة في العالم الحقيقي. ومعظم الماركسيون يتبنون نظرة يوتوبية أو خيالية للجريمة: "فهي سوف تزول تحت الاشتراكية". ليس فقط لن تتواجد الجريمة، ولكن، بالإضافة إلى وكنتيجة، فإن علم الإجرام سوف لن يعيش ويستمر في مجتمع حقيقي وحر". أما غير الماركسيون فيرون أن هذه الرؤية وهمية وخيالية.
وقد انتقد الماركسيون أيضا لنقص اهتمامهم في الواقع عند دراسة الحقيقة التجريبية للجريمة والانحراف. وبما أن الجريمة ترى على أنها نتاج الرأسمالية، وبما أنها من المفترض أن تختفي عندما يظهر ويبزغ عصر الاشتراكية، فالجريمة هي، في نظر الماركسيين الظاهرة المصاحبة – ويعني هذا – حالة ثانوية وباثولوجية (مرضية) سوف تنتهي عندما يعالج ويشفى المرض، ولذلك فهي ليست ذات أهمية بذاتها. المرض، في عيون الماركسيين، هو الرأسمالية، وأعراض هذا المرض تشمل الجريمة والانحراف. ويرى النقاد أن العلماء الماركسيين جاهلون بالنسبة للسلوك المنحرف بحد ذاته. فالتساؤل الموجه نحو دراسة السلوك الإجرامي قد انكمش إلى "الانشغال غير السياسي لعلماء الإجرام البرجوازيون" – حيث يرى اليوتوبيون الماركسيون أن هذه التهمة إنما هي فضيلة وليست خطيئة أو انحطاط. وفي كل الأحوال، كما يرى الماركسيون، فإن علم الإجرام "الدراسة العلمية للجريمة" قد خدم غرض واحد وهو اضفاء الصبغة الشريعة على النظام الاجتماعي الراهن. ولكن العلماء غير الماركسيين لا يتفقون مع ذلك حيث يرون أن فهم السلوك الإجرايم يجب أن يعتبر كنهاية بحد ذاته وبطبيعته. وبهذا، فإن تجاهل الجريمة، جعل الماركسيين يحتكرون وظيفة علماء إجرام بعيدين ومفصولين عن دراسة الجريمة.
يرى معظم علماء الاجتماع أن الاتجاه الماركسي في الانحراف والجريمة غير متهم بدراسة العالم كما هو، ولكنه مهتم جدا بتغييره. في الواقع، العديد من الماركسيين يعتقدون أن العالم "كما هو" ليس هو في الحقيقة الشكل الذي سوف يكون عليه في المستقبل، ولذلك، حتى نبحث الآن في الحالات، والبناءات، والسلوكيات، إنما هو انشغال وانزعاج في الحاضر غير الشرعي وغير الأصيل،ت ومحاولة لإضفاء صفة الشرعية على ظاهرة غير حقيقة الوجود وجعلها وتحويلها إلى حقيقة. وكنتيجة لهيمنة وسيطرة المدافعين عن الوصف والتحليل، يتهم بعض النقاد، علماء الإجرام الماركسيين بتبني أيديولوجية وموقف يوتوبي أو خرافي. فليس المهم تفاصيل الحقائق والوقائع، ولكن المهم هو نقاء وصحة الموقف السياسي للفرد. فالجدال هنا أنزل وخفض إلى الإصرار، والقصص الخرافية (الحكايات)، والاختلاط، والتناظر الوظيفي (أي الوظائف أهم وأفضل)، بدلا من أن يعتمد على بحث علمي منظم.
وأخيرا يعترض العديد من النقاد على نزعة بعض (وليس كل) العلماء الماركسيين، ليس فقط رؤيته للقانون الجزائي ومعايير المجتمع واعتبارها غير شرعية، حيث أن الاثنين وضعا من قبل قوة الصفوة، ولكن، وإضافة على ذلك، لاعتبار أي جهد يبذل لدراستهما (القانون الجزائي ومعايير المجتمع) كظواهر شرعية، إنما هو جهد مبذول من قبل البرجوازيين أو مضاد الثورة. ويرفض الماركسيون قبول أي وضع راهن، لأنه يعطي الدعم لرواية المسؤولين عن الواقع. ويؤكد علماء الإجرام الماركسيون أن أكثر علماء الإجرام التقليديين – وعلماء الاجتماع المرتبطين بالانحراف يقبلون التعريف السائد للقانون والمعايير وذلك عند دراستهم للأنشطة المعرفة بالجرائم والانحراف وفقا للنظام القانوني والأخلاقي الراهن. وعليه فهم يضفون صفة الشرعية على حقيقة هذه التعريفات. والدراسة من قبل علماء الاجتماع التقليديين دون توجيه النقد أو محاولة تحطيم النظام الذي ينتج هذه القوانين والمعايير، إنما هم في الواقع يساعدون ويساهمون في جعلها (القوانين والمعايير) حقيقية، لذلك فإنهم (أي علماء الاجتماع) يشاركون ويساعدون في اضطهاد الناس والشعب. ويتمنى الماركسيون إعادة تعريف الجريمة واعتبارها انتهاك لحقوق الإنسان. فهم يتمنون أن يأخذوا تعريف ما هو جريمة من أيدي الصفوة صاحبة القوة ويضعوها في أيدي الشعب.
ويعتبر غير الماركسيين هذه النظرة إنما هي هراء ولغة طنانة ومنمقة، فهم يفرقون بين دراسة الظاهرة وبين الاعتراف بشرعيتها. فالقول أن الجرائم تتقاسم مكانة عامة مع القانون، يعني بالتحديد هذا فقط دون زيادة أو نقصان. وهذا لا يعني أن الجرائم يجب أن تكون ضد القانون. فالشعور الشخصي والأيديولوجي المتعلق بالشرعية، والعدل أو عدالة قانون ما، ليس له علاقة بالظاهرة. فعندما نسمي فعل محدد "جريمة"، ليس من الضروري أن نوافق على أنه يجب أن يكون جريمة – ولكنها جريمة في الحقيقة. فقد تحدث أن تكون حقيقة قانونية، أن فردا ما ضبط من قبل رجال الشرطة وبحوزته كيلوغراما من الكوكايين، أن يكون في موقف يحتم القبض عليه. لا يعني كثيرا بماذا نحن، كملاحظين، من الممكن أن نفكر أو تشعر إزاء القوانين ضد حيازة الكوكايين، فهي متواجدة كحقيقة قانونية.

نظرية الصراع غير الماركسية
Non-Marxist Conflict theory
يتفق علماء الصراع غير الماركسيين على أن القانون الجنائي هو من ابتكار وخلق القسم المسيطر وذوي القوة في المجتمع. ومصالح القوى ترجمت وحفظت بواسطة القانون الجنائي. فهم يتفقون على أن الإجماع نادرا ما يظهر ويعم بالنسبة للأنشطة التي يشعر العامة بضرورة تجريمها. وعلى أي حال، وحتى لو أن الإجماع قد أظهر دعما، فإنه نادرا ما يكون السبب في تمرير وإقرار هذه القوانين. وعلاوة على ذلك يوافق علماء الصراع غير الماركسيين على أن تجريم نماذج سلوكية محددة، نادرا ما يحمي مصالح المجتمع ككل، بل على العكس، بعض الشرائح من المجتمع سوف تربح وتستفيد، والبعض الآخر سوف يتأذى ويعاني من جراء تمرير وتطبيق أغلب القوانين، فالقوانين وتطبيقاتها نادرا ما يكون لها تأثير إيجابي أو سلبي موحد ومتماثل على كل الطبقات أو الشرائح أو الطوائف في المجتمع.
وتختلف المدرسة غير الماركسية عن الماركسية في عدة نقاط، حيث يصر علماء الصراع غير الماركسيين على ما يلي:
1- ليس كل أنواع الصراعات تكون بين الطبقات الاجتماعية:
حيث يعتبر غير الماركسيين المؤسسات الاقتصادية كواحدة من مجموعة مهمة من المؤسسات القوية في المجتمع، ويرون أن مسالة أي المؤسسات (الدين – السياسة – العائلة ... الخ) تؤثر في الأخرى أو الأخريات يعتمد على الموضوع والظروف المحيطة به. فهم يصرون على أن هناك العديد من مصادر الصراع التي لا يمكن تتبعها وإرجاعها إلى عوامل اقتصادية أو اجتماعية. فعلى سبيل المثال ترى عالمات الإجرام أن التفرقة الجنسية واضطهاد المرأة هو نتيجة لإقرار وتمرير العديد من القوانين (على سبيل المثال الحقيقة أنه في معظم الولايات الأمريكية لا يستطيع الرجال قانونيا اغتصاب زوجته)، وعدم إقرار وتمرير القوانين الأخرى (حقوق المساواة)، وعدم تطبيق البعض الآخر حتى الآن (مثل ضرب الزوجة). هذه القوانين لها علاقة قليلة أو معدومة ي عملية النزاع بين البرجوازيين والعمال، بل على العكس لها علاقة في النزاع القائم بين مجموعة ليس لديها القوة نسبيا في المجتمع (النساء) ومجموعة أخرى قوية نسبيا (الرجال). وهناك العديد من الصراعات – مثل، الصراع بين الشباب والشيوخ، أو بين الجماعات العرقية المختلفة – ربما لا تمثل ببساطة النزاع والصراع بين الطبقات أو المصالح الاقتصادية.
2- بعض الصراعات تكون حول وعلى مواضيع رمزية:
يصر الماركسيون على أن الصراع بين الطبقات والطوائف في المجتمع الرأسمالي لها الثبات العقلاني، ومرتبطة في توزيع المصادر والقوة. ويصر علماء الصراع غير الماركسيون على أنه، بينما العديد من المواضيع مثل هذا النمط، إلا أن الجزء الأكبر منها يكون على مسائل يمكن تصنيفها كمسائل رمزية أو غير عقلانية، حيث لها علاقة بالمواضيع المتعلقة بالمكانة أكثر من القوة والاقتصاد.
فعلى سبيل المثال، في 1919، منع بيع المواد الكحولية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن في بداية 1933، اعتبر المنع الوطني على المواد الكحولية فاشلا، ومن ثم ألغي. يرى علماء الصراع أن القانونيين، أي قانون الإباحة وقانون وقانون المنع والتحريم وما تبعها من ملاحق قانونية وتفسيرية، يمكن تفسيرهما من خلال وجود اختلاف في القوة بين أجزاء وطوائف السكان نتيجة لاختلاف رؤيتهم ونظرتهم لما هو صحيح وخطأ.
ففي بداية القرن العشرين، حصل أن الريفيين، والجنوبيين، والطبقة الوسطى القديمة من الفلاحين الأثرياء، وتجار الأسواق المحلية من البيض البروتستانتين والانجلوسكسونيين، والمواليد الأمريكيين من أبوين أمريكيين، احتكروا وسيطروا على القوة في السياسة الأمريكية، مع مراعاة نسبة أعدادهم القليلة في المجتمع. فهم كانوا ينظرون إلى الامتناع الكامل عن المواد الكحولية على أنه علامة من علامات الفضيلة، وشعروا أن تناول الكحول شيء ضار ومسيء للسمعة وغير أخلاقي. فانتصار المنع (أي منع الكحول) يمثل انتصارا لطابع وأسلوب حياة محددة، ولأخلاقيات وفضائل الجماعات التي تعتنق وتعيش هذا النوع من أسلوب الحياة، فبعض النزاعات العميقة في السياسة الأمريكية برزت وخرجت من، وعلى مواضيع لم تكن لها علاقة مباشرة بالانقسامات والتخصصات الاقتصادية.
وفي بداية الثلاثينيات، اعتبر المنع والتحريم فاشلا، ومن ثم ألغي واعتبر باطلا. لماذا؟ بسبب قوة الشريحة السكانية التي برزت ومارست قوة كبيرة، أكثر من سابقتها في السياسة الوطنية الأمريكية. وقد شملت هذه الشريحة الجديدة كل من سكان الحضر والمدن، والطوائف الدينية غير البروتستانتينية مثل اليهود، الإيطاليين والأيرلنديين – بالإضافة إلى سكان شمال شرق الولايات المتحدة، وأبناء وبنات المهاجرين. فشرب وتعاطي المواد الكحولية بين هذه الشرائح من السكان لم يكن له أية علاقة بالفضيلة. لذلك فهم قاموا بتأييد تعاطي المواد الكحولية وعارضوا منعه وبالتالي أيدوا إلغاء قانون تحريمه ومنعه. فعملية إلغاء القانون ليس بسبب أنه لم يصلح أو لم يكن مجديا، كما يرى علماء الصراع، ولكن بسبب أن الجماعات التي ناصرته وأيدته (أي المنع) فقدت القوة، والجماعات التي عارضته (اي عارضت قانون المنع) أصبحت أكثر تأثيرا ونفوذا في العمليات السياسية في المجتمع الأمريكي. فالقانون له وظيفة رمزية، وهذه الوظيفة تظهر في تأييد العامة لمعيار ما من خلال فعل الحكومة ويعبر عن تقدير وتأهيل العامة لثقافة تحتية مقابل ثقافات أخرى. وهو يوضح أي الثقافات تملك الشرعية وتعم الشعب وأيها ليس لديه أي قوة أو سيطرة. وعليه فهو (القانون) يعزز المكانة الاجتماعية للجماعات التي تحمل الثقافة المؤيدة، ويحط أو ينزل من مكانة الجماعات التي تحمل الثقافات المرفوضة وتوصمها بالانحراف. باختصار، فبالنسبة لعلماء الصراع غير الماركسيين، فإن العديد من المواضيع المتصلة بالانحراف والجريمة والمعايير والقانون، ليس لها علاقة (أحيانا لها علاقة بسيطة جدا) بالمسائل الاقتصادية، ولكنها رمزية وغير مفيدة كأداة للقياس.
3- الجريمة والانحراف موجودان وسوف يستمران في الوجود في كل المجتمعات الإنسانية:
تعتبر عملية الصراع وخرق القوانين كلية الوجود (أي سوف تظل وتستمر في أي زمان ومكان) وعالمية، وسوف تتواجد وتزدهر حتى في المجتمعات الاشتراكية.
فقد تبنى الماركسيون النزعة اليوتوبية (الخيالية / المثالية). وهذا يعني أنهم يعتقدون أنه عندما تنتهي ويطاح بالرأسمالية، ويعلن أو يبشر بدخول عصر وعهد الاشتراكية، فإن معظم المشاكل الأساسية في العديد من المجتمعات سوف تحل. وبما أن الرأسمالية هي في جذور كل الجرائم مثل السطو على المنازل، القتل، والاغتصاب إذن هذه الجرائم لن تعيش في المجتمع الاشتراكي. فالصراع الحاد والمنتشر والسائد والعميق تحت ظل الرأسمالية سوف يندثر ويخمد عندما تؤسس الاشتراكية الحقة.
أن المنظرون غير الماركسيين يعارضون ذلك. ويرون أن الصراع مرض مستوطن في كل العلاقات الاجتماعية وأن تحويل اقتصاد المجتمع من القطاع الخاص إلى القطاع العام لن يقضي على الصراع. وبالمثل، فإن الجريمة والانحراف والجناح وتمثل سمات لا يمكن استئصالها من كل المجتمعات، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية. صحيح أن بعض الأفعال المحددة تكون بدرجة كبيرة شائعة في بعض المجتمعات عنها في الأخرى، ولكن أسس وطبيعية اقتصاد المجتمع له علاقة بسيطة جدا بها. ويصر العلماء غير الماركسيون على أن الاشتراكية لن تمحي وتنهي، وتقلل وتخفض بشدة حوادث الانحراف والجريمة أو النزوة لتشريع المعايير (أي العمال على شرعيتها) وتمرير القوانين ووصم الانحراف أو القبض على مخالفي القانون ومعاقبتهم.

الوضعية: التحليل السببي
Positivism: Causal Analysis
الاتجاه الآخر الذي يوف تتم مناقشته هنا، لا يعتبر بشكل عام نظرية بكل المقاييس، بالنسبة لمعظم الملاحظين والمعلقين على نظريات الانحراف والجريمة. في الواقع، بمعنى أن هذا الاتجاه (الوضعية) لا يحتوي على مسائل وافتراضات حقيقية وجوهرية كما هي في أي نظرية، وبالتالي لا يمكن اعتبارها نظرية. ولكن، عوضا عن ذلك، فإن هذا الاتجاه يعتبر أولا: طريقة خاصة ومحددة، الطريقة العلمية، مع تركيزها على الموضوعية وثانيا: كنظرة عامة على كيفية عمل وسير العالم من حولنا، وهذا يعني، أن العالم من حولنا يسير بحتمية(*).
ففي القرن التاسع عشر، وفي علم الإجرام، تعني الوضعية النظرة التي ترى أن السبب الرئيسي في السلوك الإجرامي هو الأمراض البيولوجية.
فمصطلح (الأمراض البيولوجية) الوراثة، يرجع إلى أعمال وكتابات لومبروزو وأتباعه. فعلماء الإجرام المحدثين ينسوا من الانحطاطات البيولوجية كسبب مباشر للجريمة ولكنهم استبقوا النظرة التي ترى أن الجريمة تحدث بواسطة ومن خلال عوامل مادية محددة. ويقصد بالوضعية في علم الاجتماع، بشكل عام، تلك النظرة التي ترى أن المعرفة التجريبية هي الأساس الشرعي والمقبول والصحيح من المعلومات والمعارف. ومصطلح تجريبي يعني ببساطة ما يمكن ملاحظته وتصوره من خلال الحواس الخمسة، وثم التأكيد عليها من قبل ملاحظين مستقلين. فإذا كنا لا نستطيع أن نرى – ونحس، ونسمع ونشم ونتذوق شيء ما – وإذا لم يستطع الآخرون أيضا رؤية – وإحساس وسماع وشم وتذوق ذات الشيء – فإنه بالنسبة للوضعيين ببساطة غير حقيقي.
يؤكد ممارسوا الوضعية على أن علم الاجتماع وعلم الإجرام ليس من الضروري أن يختلفا عن العلوم الطبيعية كالفيزياء مثلا. حيث يستطيع علماء الاجتماع أن يكونوا على قدر من الموضوعية في دراساتهم للعالم الاجتماعي مثل عالم الفيزياء أثناء دراسته للعامل الطبيعي. فبواسطة توظيف الطريقة العلمية، يستطيع العالم الاجتماعي أن يتغلب على مشكلة التحيز والذاتية ويرى العالم كما هو في الواقع وعلى حقيقته. ويرى الوضعيون، أن العلم له علاقة بسيطة إن لم تكن معدومة مع المسألة الأيديولوجية أو السياسية. فهما (أي العلم والسياسة) موجودان في عالمين مختلفين تماما. وهذا ما يقصد به (كما يقول الوضعيون) بالموضوعية أو خالي من القيم والتحيز. فالموضوعية تعني: 
1. الجهود والمحاولات الناجحة لحجب النظرة الشخصية، ورؤية الواقع الفعلي كما هو في الحياة.
2. ممارسة الطريقة العلمية أو أساليب البحث، والتي من خلالها يتم صياغة فرضية أو فرضيات ويتم جمع المعلومات المطلوبة لاختبارها.
والوضعية الحديثة المستخدمة في دراسة الجريمة والانحراف تعتمد على الحقيقتين التاليتين:
1. الانحراف حقيقة موضوعية.
2. السلوك المنحرف هو شيء محدد وناتج مجموعه محددة من العوامل في العالم المادي.
أولا: القول بأن الانحراف والجريمة "حقائق موضوعية" يقصد به امتلاكها واحتواءها لصفات موضوعية خاصة تميزها بصورة آلية وبشكل واضح عن السلوك التقليدي والممثل للقانون. بمعنى آخر، أن كل أشكال السلوك المنحرف تشترك في خطوط عامة أو قاسم مشترك، وعلامات مميزة تفرقهما عن السلوكيات التقليدية والممتثلة للمعايير. وعلى أقل تقدير، كل نمط محدد من الانحراف أو الجريمة (كالجنسية المثلية، والسطو على المنازل) لديه صفات مشتركة وخاصية عامة مع السلوكيات المنحرفة الأخرى. فالعالم أو الباحث هو الذي يحدد ويؤكد ما هو الانحراف أو الجريمة من خلال ملاحظة السلوك محل السؤال وتصنيفه على نحو ملائم أو مناسب وفقا لخصائصه الموضوعية. فالخصائص المتعلقة بالسلوك الإجرامي والمنحرف تكون في داخل الأفعال ذاتها. فاحتواء السلوكيات لخصائص محددة وملحوظة أو يمكن ملاحظتها هي التي تجعل منا وفي طبيعتها سلوكا منحرفا أو إجراميا. ويجادل الوضعيون على أن السلوك ليس منحرفا ببساطة، بسبب أن هناك بعض من وضعوا عليه تلك الوصمة (السوية)، ولكن، يؤكد الوضعيون، أن السلوك المنحرف هو حقيقة موضوعية، مثلما تعتبر النجوم، والكيماويات والضفادع حقائق موضوعية. فحقيقة وواقع نماذج معينة من الانحراف لها استقلالية الوجود عن عمليات الوصم الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، يكتب أحد علماء الاجتماع الوضعيين حول المرض العقلي، كنوع من الانحراف.
"بعض الناس أكثر جنونا من البعض الآخر
نحن نستطيع أن نرى الاختلاف أو الاختلافات
وإهانة الحماقة الكبرى بأسماء معينة
(الجنون) لا يعني أن هذه التسمية هي التي
تسبب الحماقة نفسها"
ثانيا: الحقيقة الثانية للمدرسة الوضعية هي نصرتها والتزامها في السببية المتشددة أو الحتمية، وهي تعني ببساطة أن الباحث الذي يدرس العالم الاجتماعي يفكر بطريقة السبب والنتيجة. فالعامل (أ) يسبب أو يحدث أو له تأثير على العامل، (ب) ويرى الوضعيين أن العوامل الاجتماعية مرتبطة ببعضها بنفس الطريقة السببية المتواجدة في عوامل الحياة المادية.
فعلى سبيل المثال، التحضر، كما يقال، سبب الجريمة، وبكونها معزولة عن الضبط الاجتماعي فقد افترضت أنها السبب أو لها تأثير على الانحراف فهذه حالة شاهدة تستطيع أن تسبب نماذج معينة من السلوك. أنها مهمة العالم لتحديد سلسلة الأسباب والنتائج المتواجدة في العالم. 
فالهدف النهائي لكل المحاولات العلمية هو الشرح والتوضيح. لماذا اعالم موجود بالطريقة التي هو عليها الآن؟ ما الذي أدى إلى ما هو عليه الآن؟ فالعالم الوضعي، خاصة في إطار الجريمة والانحراف، يحاول أن يبحث عن الأسباب التي أدت إلى ارتكاب وحدوث السلوك المنحرف. لماذا مجموعة أو فئات محددة من الأفراد تخالف وتخرق المعايير وتكسر القوانين؟ لماذا يقومون بالاشتراك في نماذج معينة من السلوك؟ ما هو سبب أو أسباب الاغتصاب، القتل، السطو، الجنسية المثلية، البغاء، الكحولية والأمراض العقلية؟ بالنسبة للعالم الوضعي فإن الطريقة التي تؤدي إلى اكتشاف سبب أو أسباب السلوك المنحرف، أو نماذج منه، هو بواسطة أو من خلال عزل العوامل الرئيسية التي يشترك فيها الأفراد المنحرفين. كل المنحرفون، كما يقال، أو على الأقل، كل المنحرفين الذين من صنف أو نوع خاص، يتقاسمون علامات مميزة تجعلهم يفترقون ويختلفون عن الناس الذين لا يخالفون المعايير ولا يكسرون القانون، إنها هذه العلامة أو الصفة أو العامل أو المتغير، الذي يسبب ويؤدي إلى ارتكاب السلوك المنحرف. وبعزل هذه العلامات، يعتقد علماء الاجتماع ذو النزعة أو الميل الوضعي، أنه باستطاعتنا أن نوضح السلوك محل السؤال.

النقد والتقويم
واجه الاتجاه الوضعي ي دراسة الانحراف، إلى جانب الاتجاهات الأخرى، هموما ونقدا لاذعا من مؤيدي النظريات الأخرى وهي كالآتي:
أولا: أن الاتجاه الوضعي الذي تبنته العديد من العلوم الاجتماعية التقليدية، كما يقول الناقدين، يتجاهل المقاييس الأساسية والحاسمة للخبرات الذاتية والشخصية. فأهم صفة في كل السلوكيات، هي معانيها للفاعلين والمشتركين فيها. فلكي ندرس الانحراف بالدرجة الأولى كسلوك موضوعي، يجب أن نركز على العلامات والميزات المصطنعة وغير الحقيقية للأفعال. فالسلوك يصبح ويرى على أنه حركات ميكانيكية وليست أفعالا ذات معنى في طرق محددة لكل المهتمين. وحتى نوازن بين فعلين متشابهين بصورة آلية وظاهرية، إنما يعني أن نفقد الرؤية عن الحقيقة التي ترى أن ردود الفعل والنظر الفعلي إلى هذين السلوكين قد تم بطرق راديكالية مختلفة. فربما هذين الفعلين يوحيان بمعاني مختلفة للمشتركين بالفعل. فماذا يعني شيء ما، يقول علماء الاجتماع ذو الاتجاه الذاتي، إنما يعتمد كليا على كيفية تفسيره من قبل المشاهدين بما فيهم الفاعل.
باختصار، "المعاني ليست في صلب الأفعال، ولكن يجب أن تبنى وتركب وفقا لشروط معينة". والفعل "يكون" لا شيء حتى يتم تصنيفه، وفهمه، وإدراكه وتفسيره. إذن فهي العمليات الذاتية التي تخلق الفعل وتجعله مثالا لصنف ونوع عام من السلوك. فمثلا، في أحد المجتمعات، زنا الأقارب يتم فقط من خلال حدوث العلاقة الجنسية بين الأقرباء البعيدين والقريبين (من ناحية الدم)، حيث تشمل نصف سكان المجتمع، أو القرية، أو القبيلة محل السؤال. وفي مجتمعات أخرى، زنا الأقارب يتم فقط من خلال حدوث العلاقة الجنسية مع أعداد محددة وقليلةمن الأقارب، وتشمل الوالدين، الأخوان والأخوات، الأجداد العمات والخالات، والأعمام والأخوال بالدم، وأبناء وبناء العمومة من جانب واحد من الوالدين فقط. فنفس الفعل ربما يحدث في كل مجتمع على حدة، ولكن أحدهم يطلق عليه زنا الأقارب والآخر لا يطلق عليه ذلك الاسم. بعبارة أخرى، ربما نحن نعلم القليل جدا عندما نعرف الصفات الموضوعية للفعل، أو حتى نعرف الفعل بطريقة سوسيولوجية حقيقية، يقول النقاد، إنما يجب علينا أن نعرفه ذاتيا أيضا.
ثانيا: الاعتراض الثاني من قبل المنظرين ذو الاتجاه الذاتي في دراسة الانحراف والموجه ضد الدراسة الوضعية في حقل الانحراف هو الدرجة العالية من الشك حول الحتمية. فالفكرة المتعلقة بالسببية هي فكرة معقدة جدا في السلوك الإنساني وربما، يقول البعض، غير شرعية وغير صحيحة بتاتا. فالقول أن شيء واحد سبب أو يسبب حدوث شيء آخر لا يمكن تحديده بدرجة دقيقة. ففي حالة حدوث حادث سيارة، على سبيل المثال، هل السبب هو حقيقة أن السائق كان تحت تأثير المواد الكحولية، أو أن المطر ساعد على انزلاق السيارة، أو حقيقة أن السائق أراد تجنب الاصطدام بطفل على الدراجة دخل الشارع فجأة، أو أن هناك شعور بالاكتئاب في حياة السائق، أو أن السائق كان مسرعا فوق السرعة القانونية، أو أن السائق كان متدربا وحديث التعلم بالقيادة نتجية لقيادته للسيارة أقل من ستة شهور؟ هل كل هذه العوامل هي السبب؟ أو أن المزيج من بعضها هو السبب؟ فالكشف عن السبب أو الأسباب لاحدث بسيط مثل حادث اصطدام سيارة واحدة، إنما هو سؤال اجتماعي وذاتي جدا. وعمل نفس الشيء (أي محاولة والكشف عن السبب) على ظاهرة عامة، مثل الجريمة، والجنسية المثلية، والكحولية، والتي يشترك فيها ويمارسها الملايين من الفاعليين ويرد عليها من قبل مجموعة أكبر من الملاحظين، بالطبع ستكون أكثر صعوبة. بعض علماء الاجتماع، يرى أن التعقيد في العالم الاجتماعي يجعل العمل في تتبع السببية في الحياة الاجتماعية صعبة لاغير، ولكن غير مستحيلة. ومع ذلك، فإن بعض نقاد فكرة السببية في دراسة الانحراف يرون أن هذا يعني أن الباحث سوف يكون دائم الشك وباستمرار في مجمل فكرة السببية في العالم الاجتماعي.
ثالثا: وأخيرا، اتهم الوضعيون بكونهم سطحيين جدا فيما يتعلق بمسألة الموضوعية. فالعديد من علماء الاجتماع يرون أن الموضوعية الحقيقية هي الاستحالية، أي أمر مستحيل. فكل الملاحظين ملوثون بالعواطف الشخصية والسياسية والأيديولوجية. فدراسة جرائم الشارع (السرقة – الضرب – الاغتصاب – القتل – الرشوة ...الخ). سوف تؤدي بصورة آلية أو أوتوماتيكية، ويستتبع كنتيجة لابد منها، تجاهل وعدم التركيز المطلق على أهمية جرائم ذوي الياقات البيضاء. فدراسة السجناء من وجهة نظر المساجين يستتبع كنتيجة لابد منها، قبول نظرتهم إلى الواقع كحقيقة، وترك وتجنب نظرة حراس السجن والسجانين وجميع العاملين في السجن. وعند إجراء بحث على العوامل التي تؤدي إلى الثورة في أمريكا الجنوبية، ربما يؤدي ذلك إلى إعطاء وتزويد المعلومات إلى الأنظمة الاضطهادية، والتي بدورها تساعدهم في القضاء على تلك الثورات. فالرغبة في نشر نتائج دراسة ما، والتي تكون في الواقع صحيحة وحقيقية، ولكن ربما تكون هدامة بالنسبة لبعض الجماعات المضطهدة، أو في تسبب أحداث العدالة، دائما يستتبع كنتيجة لابد منها، وهي اختيار سياسي – ضد الناس ومن أجل العلم. فاختيار نشر نتائج هدامة وخطرة، ولكن حقيقية، ليس أكثر موضوعية من اختيار منع أو عدم نشر هذه النتائج. فمثلا، اختيار العمل على الأسلحة النووية بسبب أن الفرد يتمنى ويرغب في تطوير المعرفة العلمية، يستتبع كنتيجة لابد منها تطوير وتقدم الجيش والآلة العسكرية أيضا. فالواحد منا يختار مواضيع سوسيولوجية للدراسة معتمدا على مقاييس ذاتية، ليس ببساطة طريقة لتطوير المعرفة في شكل تجريدي وعلمي بحت، ولكن دائما يكون فيها تمتضمنات سياسية وأيديولوجية إلى جانب اعتبارات النتائج. فالباحث لا يستطيع أن يسلخ نفسه عن مسألة الأخلاقيات عند قيامه بالبحوث الاجتماعية.

الجريمة السياسية
لا يوجد إلى وقتنا الحال إجماع علمي وعالمي حول تعريف الجريمة السياسية أو حتى كيفية دراستها، أو ما هو معروف ومبين عنها. لذلك فإن ما سيقدم ما هو إلا محاولة لعرض رؤية شمولية حول الجريمة السياسية وليس تقريرا عن نظرية ثابتة ومقررة مسبقا في حقل علمي ثابت، لذا فإنهن سيتم دراسة الجريمة السياسية من منظور الصراعات البنائية Structural Conflict Theory.
وقد بين جرايمز و تورك" – بأن الجريمة السياسية يجب أن تعرف وتفهم من خلال تحليل الصراع الناتج عن المؤسسة السياسية لعدم المساواة الاجتماعية. بمعنى آخر تحليل الصراع القائم في المؤسسات السياسية القائمة في أوساط تفتقر إلى قيم المساواة الاجتماعية.
نحو تعريف للجريمة السياسية:
متى تكون الجريمة سياسية؟ هذا التساؤل يبرز صعوبة التمييز بين الجريمة السياسية وغيرها من الجرائم، ففي الوقت الذي يجد فيه الفرد تعريفات قانونية للخيانة والإرهاب فإنه يجد أيضا أن النضال والعلاقات السياسية لها علاقة في صياغة وتطبيق ومخالفة كل القوانين بشكل واضح ويتبين أن النظام القانوني يعكس ويدعم عدم المساواة المؤسسة من قبل القوة والمصالح وعندما يقوم الفرد بتهديد "بقصد أو بغير قصد واقعيا أو احتماليا " مفاهيم عدم المساواة القائمة والراهنة فإن هذا يعني أنه يخاطر بوضع نفسه في تصنيف المجرم السياسي مثال ذلك: أن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا في القرن العشرين فإن العرق الأدني "الأسود" يهدد سياسيا مثل التدرج الطبقي في القرن التاسع عشر في بريطانيا والذي كان ينظر إلى أن وجود الطبقات الدنيا يعني وجود خطر سياسي.
وعليه يرى "تورك" الجريمة السياسية بأنها "أي شيء تراه القوى والجماعات المسيطرة – كتهديد لمصالحهم ومراكزهم ومكانتهم في المجتمع". ولتعريف الجريمة السياسية من خلال ما تراه الصفوة بأنه تهديد ربما يحفز البعض إلى ربط القانون بالاضطهاد وربط كسر القوانين بالثورة وهذا بطبيعة الحال يعتبر خطا فالأنظمة القانونية لبست اضطهادية بشكل موحد وثابت والجريمة كذلك عادة ليست فعل بطولي أو تقدمي.
والأهمية السياسية للجهود التي تبذل في لاضبط القانوني ومعرفة الأفعلا اللاقانونية يجب ألا تقف عند حد الافتراضات المجردة وإنما يجب أن توضح هذه الأهمية من خلال الدراسات التجريبية الميدانية. ولتفادي الانحياز الجزبي أو الفئوي فإنه يجب على الفرد أن يقبل الواقع بأن منفذ القانون أو مخالف القانون يتصرفان بأشكال أو بطرق هدامة أو بناءة. وهذا يعني أنه بالإمكان زيادة أو نقصان فرص الحياة الجمعية أو التضامنية ي مجالات الصراع. ويعتبر تحقق الرفاهية والاتفاق الجمعي بين أفراد المجتمع دليل على نجاح السلطة أو النظام السياسي.
ويرى "تورك" إنه يمكن تعريف الجريمة السياسية تعريفا اشتراطي بأنها: "كل ما تعرفه السلطات وتفهمه أو تشعر به أو تتوقع بأنه مقاوم لوجودها أو مهدد لكيانها وأبنيتها المؤسساتية بمختلف مواردها وفرصها".
ونلاحظ أن هذا التعريف لم يراع أية خلفيات أخلاقية أو إنسانيةن وراء معارضة الفرد السياسية للسلطة، وهناك اتجاهات أخرى شبيهة ولكن بتعريفات مختلفة قد وضحت من خلال العديد من الباحثين ومن أمثلتهم تعريف "روبك وفيبر" حيث وضعا تعريفا واسعا فضفاضا للجريمة السياسية بأنها "أفعالا غير قانونية أو غير شرعية ترتكبها الحكومة أو المؤسسات الرأسمالية أو يرتكبها الأفراد ضد الدولة" أن هذا التعريف يطمس الفرق بين تقييم القانون للجريمة السياسية وبين تقييم النظام الحاكم لها كما أنه يطمس الفرق بين الجرائم أو الأفعال التي قد ترتكب ضد الدولة وبين تلك التي ترتكب باسمها أو بمعونتها أو تحريضها.
كما عرف "انجراهام" الجريمة السياسية بأنها" أي فعل أو تصرف غير مسئول – إهمال – تصنفه قوانين السلطة بأنه سياسي". ومن سلبيات هذا التعريف أنه أولا: يستبعد تحليل المعارضة أو التهديدات للنظام السياسي وممثليه والتي تنشأ عن معايير وقيم معنوية وليست أفعال بحد ذاتها مثل (العنصر – الطبقة – العمر – التعليم) ثانيا: أن تصورات الحكومة للتهديد سوف تكون معبرا عنها في القوانين التي تحدد الأفعال الإجرامية السياسية ثالثا: كما أن هذا التعريف يحمل مضامين أو توضيحات أو تنويهات قانونية Legalistic Implication حيث أنه يفترض أنه إذا تجاوزت جهود الضبط والتحكم حدود القانون وفرضت احترام السلطة بطريقتها الخاصة فإن ذلك يقضى على الإجرام السياسي وهكذا نجد أن تعاريف الجريمة السياسية إما متشعبة فضفاضة وإما ضيقة النطاق كما هو الجال في تعريف روبك الواسع وتعريف انجرهام الضيق والمحدود والمرتبط بما هو قانون حكومي فقط.
المقاومة والمقاومون:
خوف السلطات من المقاومة لم يأت من فراغ، والجهود التي تبذلها في الضبط والتحكم لا تحدث نتيجة لنزوة حكومية وإنما تولدت نتيجة لإدراك الحكومة بأن الوضع الاجتماعي الذي يفتقد إلى المساواة سيتولد عنه بشكل أو بآخر عاجلا أو آجلا نوع من الرفض وعدم القبول. والتحدي والمواجهة، والمقاومة قد تتخذ واحدا أو أكثر من الأشكال التالية:
1. Dissent المعارضة العلنية.
2. Evasion التملص من القوانين ومراوغتها.
3. Civil Disobedience العصيان المدني.
4. Violence العنف.
وقد يدخل ضمن أفعال المقاومة وإشكالها نوع واحد أو مزيج من الأنواع الأربعة أعالية بمعنى آخر إن أشكال المقاومة قد تكون معارضة علنية أو معارضة علنية مضافا غليها عنف كما حصل في دخول أو اقتحام مجلس الأمة الكويتي في عام 2011.
1- المعارضة العلنية (Dissent):
هي قدرة أو إمكانية الفرد أو الجماعة على الانتقاد بحرية حول شخصيات أو أفعال أو أجهزة السلطة، وهذه النوعية من الجرائم تكاد تكون منعدمة في المجتمعات الديمقراطية. كما أن السلطات تسمح بوجود هذه المعارضة ليس لقناتها بأحقية المعرضين في إبداء رأيهم، وإنما تسمح بذلك كإجراء تكتيكي لإبقاء النظام، ويكثر هذا النوع من المعارضة في الأوضاع التالية:
تردي الأوضاع العسكرية أو الهزيمة العسكرية وظهور الفساد في أجهزتها.
وجود التمييز العنصري.
تردي الأوضاع الاجتماعية والسكنية للمجتمعات المحلية.
انتشار البطالة وانخفاض فرص التوظيف والعمل.
هذا وقد تتصدى السلطة لهذه المعارضة العلنية وتحاول احتوائها بطرق غير مباشرة.
2- التملص من القوانين ومراوغة السلطة (Evasion):
ويقصد به محاولة تجنب مطالب السلطة وذلك بتجنب الاتصال المباشر بالسلطة وعدم تمكينها من متابعته.
ففي المجتمع الأمريكي يراوغ أغلب المواطنين بشكل متفاوت مطلب أو أكثر من مطالب الحكومة. فبالرغم من أن قضية دفع الضرائب للحكومة أمر مفروغ منه في المجتمع الأمريكي إلا أن الهروب من دفع الضرائب أمر شائع في المجتمع الأمريكي.
وهناك نوع آخر من التملص ومراوغة السلطة تبينه الدراسات وهو الهروب من الخدمة العسكرية الالزامية عن طريق السفر إلى دول أخرى أو الاختفاء فترة مطالبتهم بالخدمة العسكرية أو بتزييف الملفات الرسمية.
عدد كبر من هؤلاء المراوغون أو المتملصون evaders يعتقد أن تصرفه هذا تعبير عن مقاومة سياسية لإجراءات سياسية مرفوضة فعلى سبيل المثال: عدد كبير من أولئك الذين يتهربون من دفع ضريبة الدخل الفيدرالي Federal Income Tax يرفضون الدفع لعلمهم بأن أموالهم ستوظف لخدمة قضايا عسكرية حربية هم ضدها أو أنها سوف تدفع للطبقة الملونة (السوداء) في الولايات المتحدة الأمريكية.
3- العصيان المدني (Civil Disobedience):
ويقصد به الرفض الغير مصحوب بعنف أو تدمير أو اتلاف أو إضرار حسي مباشر بالمؤسسات أو الأشخاص لما تطلبه أو تتوقعه السلطة وقد يستند هؤلاء المعارضون إلى حقهم الدستوري وإلى المفاهيم الأخلاقية في تبرير عصيانهم للسلطة.
أمثلة لهذا العصيان المدني تتمثل في المظاهرات السلمية المناهضة للعنصرية أو الحرب وضد انتشار الجوع وامتناع عن الذهاب إلى العمل، كما حدث أثناء الاحتلال العراقي لدولة الكويت عام 1990، وقد يأخذ العصيان المدني شكلا أكثر حدة عندما يتمدد بعض المعارضين على السكك الحديدية والتي ستمر عليها قطارات تحمل أسلحة عسكرية نووية أو اعتراض السفن التي تحمل نفايات سامة، هذه الأمثلة نماذج لكثير من التصرفات التي يلجأ إليها الملايين لإبداء رفضهم لسياسات وقرارات السلطة، ونجد أن العصيان المدني قد أخذ وفي الفترة الأخيرة بعدا أكثر تنظيما وهو نقل العصيان المدني إلى المحاكم عن طريق رفع فضايا ضد الدولة ذاتها وضد قراراتها وفي هذا الوقت الذي يعتبر فيه هذا التصرف تكتيكا جديدا لإظهار العصيان فإنه في منظار السلطة ركن مهم من أركان الجريمة السياسية.
4- العنف (Violence):
ويشمل أي فعل ينطوي على تهديد واضح أو مسببا ضررا مباشرا على الأشخاص أو المؤسسات وبغض النظر عن الكيفية التي تم أو يتم بها تعريف أو قياس العنف المناهض للمؤسسات Anti violence establishment فإن درجة العنف كأسلوف لإظهار المعارضة مرتفع جدا وهي آخذة بالازدياد مع مرور الوقت، ويلاحظ أن درجة العنف تزداد وتنخفض مع تردي أو تحسن الأوضاع الاجتماعية وطبيعة القرارات السياسية ومدى قمعية برامج الضبط للنظام الحاكم repressive control program.
ويلاحظ أن المقاومة العنفية للأفراد أو للجماعات المنظمة الصغيرة small organized violent resisters groups قد انخفض في أعقاب الحرب الفيتنامية إلا أنه عاود الظهور بشكل أقوى مرة أخرى واتخذ أشكالا كثيرة منها: التفجيرات Terrorist bombing الخطف kidnapping، والاغتيالات assassination، والاعتداء على الأشخاص والممتلكات assaults.
تتباين أعمال العنف التي تقوم بها الجماعات والأفراد نتيجة للتباين الكبير في الوعي والمقاصد السياسية لديهم. فبعض اتجاهات المعارضة أو المقاومة العنيفة تكون شديدة الرفض للعلاقات والاتفاقيات السياسية القائمة في المجتمع وقائمة على سياسة عدم المساواة التي تنتهجها السلطة إزاء الآراء السياسية الأخرى، وبعض الاتجاهات الأخرى تتصف بالجهل السياسي والآراء الخاوية ولديها استياء عام غير محدود وغير موضح بخصوص قضية ما، وإنما هو امتعاض واعتراض ورفض لذات الرفض. وهناك اتجاهات معارضة ينقضها التوجيه والتخطيط السياسي المتناسق والمتلاحم وغالبا ما يكون السبب وراء نشاطها العنيف الإرهابي تحقيق منافع انتهازية ومكاسب آنية، وكذلك الاتجاهات التي تنشأ وتظهر في فورة الصراع السياسي والتي تقدم لهم قنوات ومرتكزات لتحقيق المصالح الذاتية أو التعبيرات المرضية أو الباثولوجية.
من هنا تبرز أهمية تصنيف المعارضون السياسيون أصحاب الميول العنيفة عن طريق التمييز بين المعارضين الواعين وغير الواعين وكذلك بين الممثلين السياسيين والانتهازيون وبين الأشخاص الذين يعبرون عن آراءهم السياسية نتيجة لردود أفعال تجاه مواقف أو أحداث معينة. وتظهر مثل هذه الحالة في الوضع السياسي الكويتي والآراء المتطرفة أو المغالية في بعض المواقف وتحقيق البعض للمصالح الذاتية في خضم فورة الحراك والصراع السياسي الماضي والحالي.
ويرى مورجان "Morgan" إن شخصية مجرم العنف السياسي هي شخصية مريضة نفسيا بطبيعتها. أما "شيفر" فإنه يرى أن منشأ هذا المرض هو نقص في الوازع الأخلاقي بسبب سوء التنشئة الاجتماعية. ويرى "كيركهام" إنه بسبب الاختلال العقلي. أما "هاريس" فإنه يرى أن نشوء هذه الشخصية هو بسبب الوهم الاجتماعي الكاذب أو إنه يرجع إلى الشخصية الثائرة المتمردة. كما وصل هاريس إلى أن أغلب أو كل أشكال المقاومة العنيفة تجاه السلطة هي أفعال غير عقلانية. ويرى "أوستن تورك" إن هذا التفسير النفسي وهذه الأدلة ضعيفة وواهنة لعدة أسباب هي:
إن هذا التفسير يخطئه الواقع التاريخي للمقاومة كما تخطئه البحوث والدراسات التي أجريت بهذا الصدد فالإرهابيون ومثيرو الشغب على اختلاف أنواعهم لا يقدمون على أفعالهم إلا بعد إعداد وتفكير مسبق فهم يدركون ما يريدون بوضوح، وغالبية هذه الاتجاهات والجماعات الإرهابية لديها دوافع وأهداف سياسية مهما كانت بدائية وبسيطة قد تجعل لها أولوية على تحقيق الأهداف الشخصية وبإمكاننا أن نصل إلى رأي عام حول العنف السياسي والأفعال التخريبية السياسية هي أفعال عقلانية مدروسة.
وعند مراجعة الدراسات التي تناولت دراسة الثوريين revolutionaries ودعاة العصيان Rioters والشغب Rebels والمشاغبين والمنشقين Dissidents والراديكاليين Radicals، وغيرهم من المواجهين أو المعاندين السياسيون نجد أننا بحاجة إلى المزيد من الفرضيات التي تفسر سلوكهم واحدة من تلك الفرضيات تفترض أن المقاومين السياسيين ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا وبالذات أولئك الذين يقومون بأدوار تخطيطة وقيادية للمقاومة السياسية العنيفة. كما أنه كلما كانت المقاومة مدروسة ومنظمة ومحسوبة بدقة كلما كان أصحابها أو قادتها على الأقل من طبقات اجتماعية عليا. وبهذا المنظور فإن الجريمة السياسية هي نتاج الطبقة المعارضة العنيفة في الطبقات العليا فلابد وأن نضع في الاعتبار الإمكانات المادية وغير المادية والفرص الكبيرة التي يتمتع بها أصحاب هذه الطبقة.
وقد حاول "مولر 1973 Muller" حاول أن يفسر هذه الظاهرة حيث أرجع الأمر إلى الاختلاف بين عملية التنشئة الاجتماعية لدى الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، حيث بين أن أسلوب تنشئة الطبقة الغنية تجعل الأبناء ذو حساسية شديدة للأحداف والأوضاع السياسية، فهم يتميزون نتيجة لنمط التربية والتنشئة الأسرية والاجتماعية بقوة تأثيرهم وبروز صفات الشخصية الإقناعية.
وهاتان الصفتان من أهم سمات الشخصية المقاومة الواعية articulate political actor، فهم أكثر وعيا وفمها للأحداث وأكثر تفاعلا معها نتيجة لمستواهم التعليمي والثقافي المرتفع، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نجد أن أبناء هذه الطبقة يشعرون بقدرتهم على تغيير الأحداث لما لديهم من قوة مادية ونفوذ في المجتمع لذا فإننا نجد أن الشباب المعارضون ذو الأصول الطبقية العليا أقدر على مواجهة السلطة من أولئك ذو الأصول الطبقية الأقل الذين غالبا ما يكونوا محدودي القدرة أثناء مواجهة السلطة. ولذلك يمكن القول أن الاعتراض المباشر Dissent والعصيان المدني الصارخ open disobedience هو أسلوب مقاومة أفراد الطبقات العليا بينما يعمد المقاومون ذو الأصول الطبقية الفقيرة إلى أسلوبي التملص أو المراوغة evasion والعصيان غير الحاد Subtle Disobedience.
والاختلاف الطبقي في المقاومة العنيفة له علاقة بمجموعة من العوامل والمتغيرات، فنجد أن التجمع التلقائي للمشاغبين riots والثوار والهيجان والصخب الذي يقوم به المعارضون بطريقة انفعالية عندما يفقدون الأمل في تيغر الأوضاع. إضافة إلى الهجمات العنيفة المتقطعة واليائسة والغير متصلة ببرنامج متكامل والتي تاتي غالبا نتيجة لشعورهم بالإحباط واليأس الشديدين. هذه الأنماط من المقاومة غالبا ما يعمد إليها مقاومو الطبقة الدنيا وغالبا ما تكون أسببا العنف والثورات والمقاومة التي تبديها هذه الفئة نتيجة للحرمان من الحقوق.
وفي المقابل نجد أن عنف معارضو الطبقات العليا يميل إلى الدقة والتنظيم ووضع الإستراتيجيات والأولويات في التحرك وتكوين الخلايا الثورية المنظمة والخلايا الإرهابية وفرق الاغتيالات، كما يعمد إلى بناء قوة جندية – عسكرية – على رجة عالية من التطور لتنفيذ المهمات الاغتيالية والهجوم المدروس على الأشخاص والمؤسسات إضافة إلى كتابة وتوزيع مناشير المعارضة Manifesto لتوضيح أفكارها ومبادئها. ولابد من الإشارة والتنبيه إلى مظاهر التباين في الانتماء الطبقى وأشكال العنف السياسي تتباين باختلاف المجتمعات وباختلاف الأوقات والأزمان في المجتمع الواحد وعبر المجتمعات.
ففي أي مجتمع نجد أنه كلما زاد الحرمان المادي والثقافي والانعزال الاجتماعي والإبداعي الفكري كلما كان التمايز الطبقي class differences واضحا وهذا الانعزال الطبقي سيؤدي إلى تباين أشكال المقاومة والعنف الذي يبديه مقاوموا كل طبقة، وتتوحد اشكال المقاومة بين أفراد الطبقتين كلما ضيقت أسباب الحرمان بكل أشكاله سواء الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية ونجد أنه في الوقت الحالي ونتيجة لشيوع الأيدلوجية الديمقراطية وانتشار الابداعية التكنولوجية والاستثمارات الاقتصادية والطفرات – الصناعية نجد أن أعمال العنف بدأت تفقد تمازيها الطبقى وأصبحنا نرى أن من قادة وموجهي الحركات الثورية من ينتمون إلى طبقات اجتماعية دنيا، كما ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا. إضافة إلى ذلك فإننا نجد أن المقاومون والثوار أنفسهم بدأوا يتعلمون من تجاربهم وتجارب غيرهم، فنجد أن الثوار من الطبقات العليا بدأوا يقتبسون بعض أساليب الطبقات الدنيا الثورية والعكس صحيح.
إن هذا الاتحاد وهذا التعاون بين طبقات المقاومة يجعل الحركة الثورية المعارضة أكثر نضوجا وأكثر قدرة على هزيمة السلطة. عندما نلقي الضوء على مقولة السلطة أو الحكومات "الجريمة السياسية" والتي تعطي لنفسها الحق في ترجمتها وتعريفها ووصم الأفرا بها، لذا فإنه من الضروري أن نفهم الكيفية التي عن طريقها عرفت السلطة الجريمة السياسية بهذا التعريف وكيف ميزت بينها وبين المقاومة السياسية political crime & political resistance فقد يكون المرء ثوريا سياسيا إلا أنه ليس مجرما سياسيا، وعندما ننظر إلى تعريف الدولة للجريمة السياسية، نجد أنه ليكون الفرد مجرما سياسيا فلابد وأن يكون مطلوباه من الشرطة السياسية التي هي أداة السلطة للضبط الاجتماعي. ولتوضيح وشرح الجريمة السياسية يجب أن نوضح معنى ومفهوم الشرطة السياسية فهي عبارة عن الوسائل والطرق التي يؤمن بها ويعتقد ويتصورها المسئولون في السلطة والتي تترجم وتحول في المحصلة النهائية إلى وسائل للضبط الاجتماعي.
الشرطة السياسية Political Policing:
مهمتها حفظ النظام maintaining order ويقصد به حفظ نظام معين، فأجهزة الشرطة وتنظيماتها المختلفة تقوم بالمساندة أثناء الطوارئ والحماية للنظام ... الخ، هذه الوظائف الخدمية Service Function تكون تابعة وقائمة لخدمة النظام القائم وبناءات القوة والجماعات المسيطرة فيه Dominant Groups.
إن مفوم الشرطة Policing يحوي ضمنه أن بناء الهيمنة العسكرية وحدود السلطة القضائية قد تحقق هذا وتستعين الشرطة بأساليب متعددة لإرساء الضبط وضمان سيادة النظام الحاكم أو السلطة عن طريق غرس الخوف من القوة المتمثلة بالشرطة أكثر من ترسيخ السلطة لأنها شرعية وتستحق رضوخ الجمهور لها.
والضبط الاجتماعي Social Control بمفهومه العام هو فن الحكم art of government & statecraft وتضع السلطة "الدولة" إستراتيجيات متعددة لسد السبل أمام أي مقاومة ظاهرة أو مستترة – كامنة – ومنع أولئك الذين تشعر بثورتهم ورفضهم للوصول إلى ماركز القوة والسلطة في المجتمع، وقد تمنع هؤلاء المعارضين من دخول الدولة أساسا إن كانوا أجانب عنها وتعني. وتستعين السلطة بالوسائل القانونية والتنظيمية organizational لحماية وعزل النظام القائم من المعارضين الخارجين وتتخذ إجراءات رادعة بخصوص المعارضين في داخل الدولة، وفي الوقت نفسه فإنها تكافئ أولئك المؤيدون والمساندون. إلى جانب تشجيع العزل والعقوبات فإن هناك نمط ثالث للحفاظ على السلطة والنظام القائم Statecraft وذلك بأن تعمد السلطة إلى تشجيع ومساندة الأعمال والجمعيات التربوية، الدينية والاجتماعية وغيرها من وسائل الاتصال الجمعي بالجمهور والتي تؤيد السلطة في مواقفها وتوجهاتها.
وعموما فإن فن الإبقاء على الحكم وتدبير شئون السلطة statecraft يتطلب تخطيطا وتنظيما في الجوانب الاقتصادية والتربوية والمالية وشئون الهجرة والعمال والضرائب وغيرها من الجوانب المختلفة والتي تضمن استمرارية النظام وبقاءه.
وتبدو أهمية الشرطة السياسية في منع prevention وقمع ومواجهة countering أي مقاومة سياسية، والفرق بين الشرطة العادية والسياسية ليس كميا (أي في عدد القوة) وإنما يفرق دور الشرطة السياسية في الأنشطة التي تشدد على أدائها والجهات التي تصب فيها نشاطها واهتمامها فالمهمة الوظيفية للشرطة السياسية هي الوظيفة الضبطية والوصول إلى حالة تحكم بالمجتمع عن طريق جمع المعلومات وتحييد وتهدئة المقاومة neutralization of resistance.
والأجهزة الأمنية الحديثة تستخم تقنية متقدمة ومتطورة في المراقبة والإشراف فمراقبتهم للسلوك والعلاقات عملية ليس لها نهاية ولا حدود فهم يهتمون بكل معلومة مهما كانت بسيطة قد يكون لها أهمية في المستقبل فهم يستعينون بالوسائل القانونية وغير القانونية لإيجاد دليل يؤكد علاقة الأشخاض أو المنفذين أو الجمعيات أو التنظيمات محل الرقابة وذلك عن طريق استخدام القوة وهذه القوة المستعملة لا تقتصر على الجانب السي وإنما قد تمارس هذه المؤسسات الأمنية أسلوبا من الضغط عن طريق تهديدها بإفشاء المعلومات تضر بالشخص أو المؤسسة أو المعارضة إذا لم تبد تعاونا كافيا مع السلطة. وتنظر السلطة إلى هذه الأساليب غير القانونية بأنها وسيلتها الخاصة لإثبات الأدلة.
وقد تكون وكالة الأمن القومي للولايات المتحدة من أكثر الأنظمة الأمنية تعقيدا ودهاء National Security Agency حيث تتميز باستعانتها بتقنية عالية ومتقدمة من أجهزة إلكترونية وكمبيوترات، وآلاف من الخبراء المتخصصين بمراقبة الأحداث المحلية والعالمية في الدول الأخرى وتعطي نفسها الحق بالتدخل من أجل حماية ورعاية القواعد الأمريكية ومصالحها في الدول الأخرى، ويمكنهم عن طريق محكمة المراقبة والمخابرات الأجنبية Foreign Intelligence Surveillance Court والتي تخولهم حق جمع وإفشاء معلومات عن المواطنين الأمريكيين وتعطيهم حق التدخل في مراقبة الاتصالات التي تتم بين المواطنين والأجانب وحق التحقيق مع المنظمات الفيدرالية ولم ترفض هذه المحكمة أي طلب تقدمت به وكالة الأمن القومي NSA ومنذ صدور القرار الرئاسي عام 1981م أصبحت NSA مخولة للتدخل عمل أي وكالة أو مؤسسة فيدرالية ولها حق التدخل في عمل الشرطة النظامية المحلية وذلك عندما تشعر أن هناك خطر أو تهديد للأرواح.
أن هذا يعني أن قدرات ونفوذ وقوة NSA يمتد إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي وإلى وكالة المخابرات المركزية CIA وكل المؤسسات الفيدرالية ووكالات المقاطعات المحلية والمواطنين وغيرهم. إن هذه القدرات وهذا النفوذ لوكالة الأمن القومي تعتبر مخالفة فادحة ومفارقة تاريخية كبيرة لمقولة حق كل مواطن في الحرية والخصوصية حيث أنها تتناقض وتتداخل مع الجهود المبذولة في مهمة ضبط نوعية المعلومات وحرية نقلها مع عملية جمع المعلومات الاستخبارية.
قد يكون من المفيد جدا الحصول على معلومات تعكس لنا الحقائق وواقع المجتمع وذلك عندما تتظافر الجهود المبذولة في جمع المعلومات وإجراء الدراسات التربوية والبحثية والإحصائية والدينية ... الخ والتي تقوم بها المؤسسات عموما قد يكون لهذه الجهود دورا تنويريا عندما تظهر هذه الدراسات أن هناك عيوبا وانتقادات تجاه أوضاع معينة فتكون النتيجة هي مضاعفة الجهود لحل المشاكل القائمة وتصحيح المعلومات الخاطئة لدى الناس أو الجهات المعنية إلا أن الأمر مختلف عند الشرطة السياسية. فعندما تكشف دراساتهم وتحرياتهم أن هناك عيبا أو نقدا يوجه إلى تنظيم ما أو أي جهة من النظام السياسي فإن رد فعلها إزاء ذلك يكون من خلال مراقبة ما ينشر من معلومات ومصادرة ما لا ترغب بنشره من معلومات، ونشر معلومات خاطئة وتشهيرية ملفقة عن المناضلين السياسيين وتعمد كذلك إلى مراقبة من ينشر أو يأخذ المنشورات أو المعلومات "الممنوعة" وقد استخدمت FBI برنامجها المضاد للاستخبارات ضد العديد من النقاد السياسيين والمقاومين.
لقد روجت FBI 1960-1970م في الولايات المتحدة معلومات غير صحيحة وإشاعات حول المعارضين والزعماء الوطنيين أمثال مارتن لوثر "حركة حقوق الأمريكيين السود" والمعارضين للحرب الفيتنامية، والمعارضين للنظام.
ولقد لعب هذا الأسلوب في تشويه سمعة القادة الوطنيين وقذفهم واتهامهم بجرائم انحطاطية لا أخلاقية دورا مهما في تفريق الجماهير لفترة وتقليل عنف المقاومة. ولأن السلطات تخشى أن تزيد المعلومات الملفقة من إصرار الجماهير والثوريون بالذات إذا شعروا بأنها مدسوسة لذلك فإنها تعتمد دائما "السلطة" إلى ترويج شائعان ذات سند قانوني وأخلاقي ومن الوسائل والإجراءات التي تستعملها الشرطة السياسية لقمع الثوريين مضايقتهم وملاحقتهم باستمرار والمضايقات تأخذ أشكالا كثيرة بدءا من أخبار الشخص بأنه مراقب من كل جهة وانتهاء إلى إسناد مهمة مراقبته إلى أناس يراهم أمامه أينما يذهب ويخبرونه بأنه سيكونون معه كظله وقد يلجأون كذلك إلى سياسة التطويق وذلك عن طريق مضايقة المعني إلى درجة متواصلة بقصد إقناعه أن المقاومة أمر لا جدوى منه وأنه سيعاقب بشكل أشد مما يعاني لو استمر على حاله. ومن أساليبهم كذلك الترهيب ويتم بخلق عوائق وصعوبات امام المعني أينما ذهب ويهدف هذا الأسلوب إلى إفهام المعارض أن ثمن مخالفته للسلطة ومقاومته لها غال ومكلف وخطير، فقد يتعرض إلى الاعتداء الجسدي والجنسي والقتل بطريقة وحشية تعذيبية. وتوظف السلطة هذه الإستراتيجيات لمقع المعارضة لقناعة السلطة أن الجمع بين المضايقة والتطويق والترهيب على البعض من شأنه إرهاب البقية الباقية وتدفعهم إلى التخلي عن المعارضة.
هذا ومن الوسائل الحديثة والمتطورة لقمع المعارضة ومعاقبة المعارضون، القمع المباشر أي معاقبة المعارض فورا بمجرد أن يظهروا مقاومة أو عنف إزاء السلطة وذلك لمنع انتشار المقاومة ومن الأساليب القمعية الحديثة الصدمات الكهربائية والتجويع وإعطاء أدوية تؤدي إلى اختلال القوى العقلية وكذلك تعريض المقاوم إلى صنوف الألم المستمر غير القاتل.
وأسلوب إبادة المقاومة بقسوة في الوقت الذي تتوقع فيه السلطة أن سحق المقاومة بقسوة وبلا رحمة للقضاء على العصيان فإن هذا الأسلوب قد أدى إلى بروز قادة في المقاومة لديهم القابلية والقدرة على احتمال الألم والتضحية بأنفسهم أي الشهادة بقصد استمرارية وتصعيد المقاومة، إضافة إلى أن ممارسة العنف من قبل الأنظمة من شأنه أن يحول الكثيرين إلى مناصرة الثوار والتعاطف ومعهم ضد تعسف ودكتاتورية السلطة الأمر الذي يعني بذل جهد أكبر بتحقيق الضبط الاجتماعي من ناحية ومن ناحية أخرى فإن هذا الوضع يؤدي إلى إضعاف شرعية النظام القائم والسلطة.
وهكذا نجد أن السلطة تعتمد على قوتها العسكرية أكثر من شرعيتها وسلطاتها وقد تكون معذورة في مثل هذا التصرف لأنها لا تستطيع إقناع كل فرد بالمجتمع بعدالة وصحة آرائها.
إن الموضوعات والقضايا التي أثرناها بخصوص الجرائم السياسية تدعونا إلى الالتفات إلى ما يلي:
1. منشأ ومصادر المقاومة ضد السلطة والنظام أو قبول النظام.
2. معرفة وفهم أكبر للعملية الراديكالية الثورية أو عملية التوجه نحو الراديكالية.
3. معرفة إستراتيجيات كل من المقاومة والشرطة السياسية في مواجهة الطرف الآخر.
4. قابلية مؤسسات الضبط السياسي أو تركيبة السلطة السياسية للاستمرار والتأثير النسبي في ظل المتغيرات المختلفة أو الحالات المختلفة.

1- منشأ ومصادر المقاومة ضد السلطة والنظام:
تبين الفرضية العامة أن: قبول الناس للسلطة أو مقاومتهم لها يرجع إلى أنهم يتصورون بأن هذا القبول أو الرفض يكون في صالحهم. وعندما نتكلم عن قبول السلطة أو مقاومتها وعلاقة ذلك بالطبقات الاجتماعية فإننا سنجد تضاربا بين الفرضيات الموضوعية والواقع ذلك أن الفرضية تفترض أن الطبقة العليا تقبل وتؤيد النظام بينما تقاومه الطبقات الدنيا إلا أن الواقع يثبت عكس هذه الفرضية تقريبا الأمر الذي يدعونا إلى وضع فرضية جديدة مستمدة من الواقع وهي أن أغلب الشباب يميلون إلى معارضة السلطة بغض النظر عن انتمائهم الطبقي وتقل مقاومتهم كلما تقدم بهم العمر وأن معظم الناس بغض النظر عن عمرهم أو طبقتهم لديهم معرفة متخلفة أو بسيطة للأنظمة السياسية كما أن الأفراد لديهم اعتقاد حقيقي وإيمان قوي بالقضاء حتى وإن كان موجود في ظل نظام غير عادل ولا يحقق المساواة للجميع.
وبإمكن السلطة الاستفادة من حقيقتين لجعل الناس تتقبل السلطة وتتخلى عن المقاومة، أولى هاتان الحقيقتان هي تلك الميزة الموجودة لدى الناس عموما وهي ميلهم إلى الارتباح وتكوين مشاعر إيجابية تجاه الأشياء المألوفة حولهم.
أما الحقيقة الثانية ويعرفها رجال الإعلام والدعاية السياسية خصوصا وهي أن غرس الأفكار والمعتقدات – الأيديولوجيات – يتوقف إلى حد كبير على درجة تكرارية الفكرة أمام الناس وعلى قوة ومصداقية الوسائل الاتصالية وتباين الوسائل الاتصالية لتوصيل نفس المعلومة فيمكن إيصال الأفكار المراد غرسها وجعل الناس تتقبلها عن طريق وسائل الإعلام، الاتصال المباشر التصرفات الفردية، واللقاءات المباشرة لقادة النظام (التقليد) ... الخ.
إن شيوع هذه الاعتقادات والأفكار المؤيدة للسلطة بهذه الاستمرارية وبهذه القوة تجعل لها قيمة بمرور الوقت لدى الناس ما ينتج عنه تقبل لهذه الأفكار بطريقة لاشعورية، إضافة إلى أن شيوع هذه الأفكار في كل مكان بالمجتمع يجعل القلة الباقية تشعر أنه لا فائدة من المقاومة.
2- العملية الراديكالية The process of Radicalization
يكثر المعارضون الذين يظهرون نوعا أو أكثر من المقاومة للسلطة إلا أن قليل منهم من يستمرون في المقاومة ليصبحوا ثوريين أو انقلابيون. فمهمة الثوريون تكمن في التخطيط ووضع وسائل مختلفة للمقاومة المباشرة وغير المباشرة للسلطة.
والراديكالية هي التحول من الفكرة والعمل السياسي والتقليدي المتعارف عليه في المجتمع إلى استعمال العنف، أو هي الابتعاد عن طريق المعارضة السياسية (الموالية) التقليدية والاتجاه نحو الجانب المعارض ألا وهو العنف. وقد تبدأ الراديكالية بالاعتراض والانتقاد ثم التملص ثم العصيان المدني ثم اللجوء إلى العنف ثم التحول إلى الإرهاب والعنف الثوري. وقد يظهر نوع آخر من العنف الشبابي التلقائي أو العفي وينتقل إلى مرحلة الرجولة واتخاذ أمر مقبول أو الرفض ومن ثم العودة مرة أخرى إلى هجمات منظمة على النظام الذي ابتعد عنه الفرد كثيرا بعد أن أعطاه الفرص الكافية للتعديل إن الحديث عن الثوريين والراديكاليين يستدعي الالتفات إلى بعض الأمور:
1. هناك العديد من المعارضين للنظام يستمرون في إبداء معارضتهم دون أن يتحولوا إلى ثوريين.
2. بعض المعارضين أو المقاومين عندما يكون هدفهم التدمير فإنهم يتحولون إلى راديكالية دون أن يكونوا قد مروا بتجارب قهرية تعذيبية من قبل السلطة.
3. العملية الثورية الراديكالية ذاتها قد لا تفضي إلى التدمير والعنف وإنما تلجأ إلى وضع سياسية البدائل والخيارات وهذا يعني بناء مراكز علمية للمعلومات وإنشاء مؤسسات اقتصادية وتربوية مستقلة ظاهريا كمحاولة للتحول إلى الاشتراكية.
هناك فرضية تنص على أنه كلما كانت مساحة الحرية كبيرة في المجتمع كلما قل ظهور الراديكالية – الثورية – والميل إلى العنف والتدمير، وكلما أيضا اتجه المجتمع نحو البدائل والخيارات عوضا عن العنف الثوري. إلا أننا نجد أن هناك فرضية مقابلة وهي كما يراها "تيلي وآخرون": أنه إذا لم يتم كبح المعارضة السياسية بطريقة حاسمة فإنها تميل إلى الانتشار وتحويل المعارضة السلمية إلى معارضة ثورية على درجة عالية من التنظيم والتدمير، فإذا لم يتم تحجيم المعارضة السياسية فإنها تميل إلى الانتشار والتصعيد وتتحول من المعارضة السلمية المتأرجحة والمترنحة بين الفترة والأخرى إلى حركة ثورية راديكالية منظمة. وكذلك يمكن أن تتحول من مغامرات إرهابية معزولة وغير مؤثرة إلى ثورة حقيقية عنيفة ومخطط لها.
3- إستراتيجيات كل من المقاومة والشرطة السياسية:
إن معرفتنا ضئيلة سواء بخصوص إستراتيجيات المقاومة أو الشرطة السياسية مثل إستراتيجية الثورة والثورة المضادة. Revolution & counter revolution
إن العمليات السياسية التقليدية ومواجهة الثورات وسياسات ومخططات الثورة كلها كمعلومات مستقاة من مزيج من افتراضات قيمية وافتراضات لحقائق عالمية محددة ولدراسات غير منظمة لطريقة الملاحظة بالمشاركة. وبالرغم من ذلك، فإن ما تم إنجازه من قبل الباحثين والمحللين للضبط الاجتماعي والصراع السياسي يمكن أن يقودنا إلى أن نستنتج أو نشتق العديد من الدلائل المهمة.
إن الدراسات التي تشمل المحتوى والمضمون والمتغيرات العلمية والواقعية لها نتائج أفضل من الدراسات الكيفية الممتدة والمستمرة والتقليدية والتي تعتمد على التاريخ التجريدي والدراسات الكمية الجزئية البسيطة. إن دراسة المتغيرات الاقتصادية والتربوية والسياسية والثقافية لابد أن تتم بطريقة تعمل على تفسير والكشف عن إستراتيجيات الصراع ولابد من مراعاة أربعة أمور عند دراسة المقاومة أو المقاومة المضادة (الشرطة السياسية):
1. إن كل إستراتيجيات المقاومة والضبط هي نتاج تاريخي للشعبو وهي صممت وحددت من خلال الأفكار الأيديولوجية أكثر من أفكار الضرورة والفعالية.
2. إن طريقة دراسة تحليل النظام ككل أفضل من اختبار فرضية سببية واحدة وذلك لأن التأثير قد يحدث على عدة مستويات من التنظيمات الاجتماعية وفي مؤسسات مختلفة، ويمكن أن يساهم فيه العديد من الآراء والأفعال.
3. إن الدراسات التاريخية الطولية أفضل بكثير من الدراسات الجزئية أو المقطعية وذلك بسبب أن بعض التأثيرات قد تأخذ وقتا طويلا لحدوثها.
4. إن التأثيرات المتبادلة بين إستراتيجيات المقاومة والضبط تعتمد اعتمادا شديدا على عوامل المحتوى والمواقف الاجتماعية التي تمر بها.
4- مدى قابلية البنى والنظم السياسية للاستمرارية في السلطة viability of political authority structures
إنه نتيجة لاختلاف درجات وأساليب المقاومة السياسية ولتباين أساليب السلطات في قمع المقاومة ونتيجة لاختلاف النظم السياسية حول تعريف الجريمة السياسية فإن استمرارية النظم السياسية ومدى مسالمتها أو تعاملها السلمي مع الرأي المضاد موضوع يحتاج إلى دراسة. وهذا يستدعي أن تهتم الدراسة بمفهوم الجريمة السياسية وتعريفها ومقارنتها لدى المجتمعات المختلفة وبمراحل متعددة ولأنظمة متعددة مثل مقارنة المجتمعات الحديثة مع التقليدية والديمقراطية مع الديكتاتورية، أو الشمولية والبناءات الكبيرة مع البناءات الصغيرة (مجتمع كيبر مع صغير). 
وهذه الدراسات يجب أن تعتد بالاختلافات والتباينات بين البناءات الاجتماعية المختلفة في المجتمع الواحد إضافة إلى الاهتمام بديناميكية التاريخ للبناءات الداخلية للفئة أو الشريحة المسيطرة. وعليه فإن علم الجرائم السياسية سوف يتجه حتما إلى الاندماج مع علم اجتماع التغير والنظام الاجتماعي.

شارك الموضوع :

0 comments:

إرسال تعليق

مسلسل العشق الأسود

مسلسل حريم السلطان الجزء الرابع

مسلسل من النظرة الثانية

مسلسل وادي الذئاب الجزء التاسع

مسلسل حكاية حب - حكاية عشق

مسرحية تياترو مصر

 
جميع الحقوق محفوضة لموقع عرب كلود مستضاف لدى بلوجر
تصميم محمد سواح تعريب عين العرب